نحاول هنا استكشاف الصورة العامة التى تشكلت فى إسرائيل منذ أطلق الرئيس المصرى نداءه للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين من مدينة أسيوط، يوم الثلاثاء ١٧ مايو ٢٠١٦، بهدف استشراف التحركات المقبلة على الجانبين الإسرائيلى والعربى. هذا الاستكشاف سيتوقف فى هذا المقال عند النقاط الرئيسية لنلم بالصورة مجملة على أن نعود فى مقالات لاحقة لبحث الجوانب ذات الأهمية بحثا مفصلا. إن مكونات الصورة هى على الوجه التالى: أولا نتوقف مع محتويات النداء المصرى الذى أطلقه الرئيس السيسى:
١- المحور الأول تحفيزى ويتمثل فى تنبيه الإسرائيليين إلى أن الرئيس يرى أن هناك فرصة للسلام يجب اغتنامها بعد اجتماعه مع الرئيس الفلسطينى بالقاهرة، ويطالب الأحزاب الإسرائيلية بأن تتفق على أهمية ذلك، ويجب أن نلاحظ أن هذا النداء جاء بعد يومين من رفض نتنياهو لمشروع السلام الفرنسى بعد أن سبق له قتل مشروعات الرئيس أوباما.
٢- أما المحور الثانى فهو ترغيب الإسرائيليين فى حل المشكلة الفلسطينية باعتبار أن هذا الحل هو المفتاح للسلام الدافئ مع مصر، والذى يشكو الإسرائيليون من غيابه رغم مرور حوالى أربعين سنة على المعاهدة. إن الرئيس هنا ينقل بدقة نبض الشعب المصرى فى غالبيته التى تربط العلاقات الطبيعية مع إسرائيل بحل المشكلة الفلسطينية
٣- فى نفس الإطار اهتم الرئيس بطمأنة المخاوف الأمنية الإسرائيلية من قيام دولة فلسطينية بإبراز معنى التحول الهائل فى العلاقات المصرية- الإسرائيلية من الحروب والكراهية إلى السلام، والذى لم يكن أحد فى الفترة بين عامى ١٩٦٧ و١٩٧٣ يتصور حدوثه واستمراره لأربعين سنة تقريبا، وما ينطوى عليه من مصالح للشعوب. وأضاف إلى هذا عنصر طمأنة آخر يتمثل فى استعداد مصر لتقديم الضمانات للطرفين.
٤- لم يكتف الرئيس بطمأنة المخاوف، بل بشر الإسرائيليين بالجائزة التى سيحصلون عليها حال إقدامهم على حل المشكلة الفلسطينية. موضحا أن هذا سيمثل تطورا يفوق فى أهميته التطور الذى أحدثته المعاهدة المصرية- الإسرائيلية، وهو هنا يشير إلى مبادرة السلام العربية التى أطلقتها قمة بيروت عام ٢٠٠٢ وما تعد به الإسرائيليين من علاقات سلام طبيعية مع جميع دول الجامعة العربية مقابل الانسحاب من الأرض العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية فى الضفة وغزة.
٥- اهتم الرئيس بأن يصل نداؤه إلى آذان الجمهور الإسرائيلى، فطالب الإسرائيليين بالسماح بإذاعة خطابه فى إسرائيل إدراكا لسيطرة مزاج الأقلية اليمينية المتطرفة على مشاعر الشارع الإسرائيلى.
٦- لم يترك الرئيس السؤال حول المانع العربى لإقامة الدولة الفلسطينية بدون إجابة، فأشار إلى تشرذم الكيان الفلسطينى إلى كيانين متناحرين فى الضفة وغزة، وعرض وساطة مصر لإتمام المصالحة بين فتح وحماس. وبهذا تكون صورة النداء واضحة فى اتجاه تحفيز وترغيب الإسرائيليين لحل القضية الفلسطينية وطمأنة مخاوفهم الأمنية وفى اتجاه تهيئة الساحة الفلسطينية لإقامة الدولة الفلسطينية.
٧- هنا لا بد من طرح سؤال ورد على أذهان المراقبين، وهو هل هذا النداء يمثل مبادرة منفردة من الجانب المصرى بدون سابق تحضير، أم أن هذا النداء يمثل تتويجا لمباحثات جس نبض جرت قبل إطلاقه مع الإسرائيليين من ناحية، ومع المملكة العربية السعودية، صاحبة مبادرة السلام العربية. طبعا الإجابة بدون معلومات مؤكدة المصدر تصبح نوعا من التخمين، ولذا سنبقى السؤال معلقا لحين توفر معلومات أو مؤشرات تساعدنا على الإجابة الصحيحة.
ثانيا: لا بد أن نمر بردود الفعل الإسرائيلية على النداء. على المستوى الرسمى من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو جاء رد الفعل على الفور مرحبا، فقد أصدر بيانا فى نفس اليوم يقول فيه أرحب بتصريحات الرئيس عبدالفتاح السيسى واستعداده لبذل أى جهد ممكن من أجل دفع مستقبل السلام والأمان بيننا وبين الفلسطينيين وشعوب المنطقة. ثم أبدى استعداد إسرائيل للمشاركة مع مصر ومع الدول العربية لدفع عملية السلام والاستقرار فى المنطقة، قائلا إنه يستمد التشجيع من روح القيادة التى يبديها الرئيس المصرى.
٢- إن هذه الاستجابة- فى غياب المعلومات حول ما يجرى خلف الكواليس- تحتمل أحد التفسيرات التالية التى طرحها السياسيون والمراقبون. التفسير الأول يقول إن سرعة الاستجابة والطابع والمحتوى الإيجابى لها يمكن أن يكونا مؤشرين على نوع من التحضير السياسى السرى الذى سبق إطلاق النداء ليكون مقدمة لتحريك مشروع جديد لحل القضية الفلسطينية وإقامة السلام بين إسرائيل وجميع الدول العربية.
أما التفسير الثانى فيقول إن رد فعل نتنياهو هو نوع من الأدب البروتوكولى، وإنه لا يعنى أى استجابة حقيقية، ومعناه الفعلى هو (شكرا لاهتمامكم ونعدكم بالنظر فى الموضوع). ويقول أصحاب هذا التفسير إن هذه ليست المرة الأولى التى يطالب السيسى فيها إسرائيل بالسلام ويشكره نتنياهو، فقد حدث هذا عام ٢٠١٤ فى مؤتمر إعادة إعمار غزة دون نتائج. أما التفسير الثالث الذى ألمحه- دون أن أصمم عليه ودون أن يسبقنى أحد إلى القول به- فأقول فيه كمراقب مصرى إنه من الممكن أن يكون النداء قد صدر من جانب الرئيس المصرى دون أى تنسيق مع الإسرائيليين بعد استقباله للرئيس الفلسطينى وتأثره بالشكاوى الفلسطينية من صور العدوان والتعسفات وأطماع التوسع والاعتداءات على المسجد الأقصى من جانب السلطات الإسرائيلية، خاصة أن خطاب أسيوط جاء والرئيس فى حالة تأثر إنسانى بذكرى النكبة الفلسطينية وتشريد الشعب الفلسطينى عام ١٩٤٨.
أما سرعة استجابة نتنياهو فإننى أفسرها بقدراته على المكر والدهاء، فقد كان آنذاك يجرى اتصالات ائتلافية لتوسيع حكومته مع هرتزوج، زعيم حزب المعسكر الصهيونى المعتدل والمطالب بالسلام. لقد وجد نتنياهو فى نداء أسيوط فرصة ليغرى هرتزوج بمواصلة جهوده لدخول الحكومة وتحدى الانتقادات التى يتعرض لها من داخل حزبه المعتدل، وبالتالى قام بالرد الفورى على نداء أسيوط ليوحى لهرتزوج بأن هناك اتصالات تجرى تحت السطح مع المصريين لإطلاق مشروع سلام. لقد شجع هذا هرتزوج بالفعل على تحدى منتقديه داخل المعسكر الصهيونى إلى أن اكتشف فى اليوم التالى أن نتنياهو يستخدمه كسنارة ليصطاد بها أفيجدور ليبرمان المتطرف المحبب إليه ويضغط عليه ليزحف إلى طلب الانضمام للحكومة وهو ما حدث بالفعل. لقد وجد هرتزوج نفسه فى موقف مخزٍ بعد لقاء عاجل تم بين نتنياهو وليبرمان، فأعلن أنه لن يجرى مفاوضات لدخول الحكومة بالتوازى مع مفاوضات ليبرمان المتطرف. طبعا تم اختتام المسرحية الحزبية الائتلافية التى أخرجها نتنياهو ببراعة ودهاء بإهانة المعسكر الصهيونى المعتدل وإلحاق العار بزعيمه هرتزوج الذى يتعرض الآن لحملة نقد شديدة تطالب بعزله من رئاسة حزب العمل والمعسكر الصهيونى على أساس أنه زحف هو الآخر ناحية نتنياهو طلبا للمشاركة فى السلطة، مضحيا بمبادئ الحزب الذى لا يرى لإسرائيل مستقبلا آمنا إلا بالسلام مع الفلسطينيين. هنا يصبح السؤال هو التالى: إذن وماذا بعد أن وسع نتنياهو حكومته بحزب يمينى متطرف آخر؟.. ترى هل يتمكن السيسى من تكرار معجزة السادات عندما انتزع سيناء من مخالب أستاذ أساتذة التطرف ومؤسس حزب ليكود، مناحيم بيجين؟، هذا ما أعدكم بأن أنشغل ببحثه.