بلدٌ كبير وقديم، يطل بوجهه من كل مكان، سواء توقعته أو لم تتوقعه. مصر، راسخة الوجود، التي تظهر في نشرات الأخبار أو في المقالات التحليلية بالهجوم أو بالتقدير أو بمحاولة الفهم أو بواحد من أولادها الذين يباغتونك من حيث لا تشعر ولا تنتظر، يبتسمون للكاميرا زهواً بانتصار ما، أو تكريم عالمى، لتتذكر رغم كل شىء أن وراء كل ذلك بلدًا كبيرًا وعريقًا وقديمًا، لم يبالغ سيد درويش حين غنّى له قائلاً- وكان ذلك في أشد لحظاته صعوبة وتحدياً: «ويفنى الكون وهمّا موجودين».
تباغتنى مصر من جديد، وبشكل شخصى تماماً، وأنا أطالعُ مرجع Duale Reihe، الذي يعرفه كل دارس للطب النفسى في ألمانيا، حيث يعتبر بمثابة المرجع الرئيسى العام للطب النفسى باللغة الألمانية، والمصدر الأهم الذي نستعدّ منه للامتحان لشهادة التخصص الألمانية، أو امتحان الزمالة. المرجع الذي قام على إعداده عدة أساتذة ألمان من جامعات مختلفة، من جامعات فرايبورج وماينز ولودفيج ماكسميليان (ميونيخ).
يتكون الكتاب، كما هو معتاد في تقسيم مراجع الطب النفسى، من عدة فصول، أما المباغت وغير المعتاد فهو اللوحة الفرعونية التي تحتل الصفحة الأولى من الفصل الخاص بالإدمان، والذى قام على إعداده البروفيسور جيرد لاوكس، رئيس قسم الطب النفسى والمتخصص في الإدمان. اللوحة الفرعونية التي تتصدر هذا الفصل تمثل بردية مصرية قديمة، والتى تعتبر أقدم نص إنسانى مكتوب، يحذر من الإفراط في تعاطى الخمور ويوصى بالاعتدال في تناولها. النص الذي ينتمى لعام ١٥٠٠ قبل الميلاد يعرض صورة لقدماء المصريين وهم يعدون الجعة من الشعير- الشراب التقليدى لمصر في العصر الفرعونى، وبجواره ترجمة حرفية دقيقة بالإنجليزية والألمانية، للمكتوب باللغة المصرية القديمة والتى تقول:
«لا تدع نفسك تنزلق للعجز بشرب الجعة في الحانة، فلا تستطيع أن تتبين كلماتك المكررة التي تتفوه بها، ولا تميّز ما تغمغم به شفتاك. تهوى فتتكسر ساقاك، ولا يمنحك واحدٌ من رفقائك يداً تتكئ عليها، ولكنهم سيقفون ويصيحون فيك، اخرج من هنا أيها المخمور».
حضور مصر القديمة في الكتاب يتكرر مرة ثانية في الفصل الخاص بطب نفس الأطفال، الذي تتصدّره ترجمة لواحد من تعاليم ونصائح الملك المصرى إخناتون يقول فيها «رأس الشوكة في معاناة الطفولة هي قسوة الوحدة وشدة الجهل» والتى تعتبر كلمة دقيقة يصف بها صعوبة الخلل النفسى عند الأطفال، حيث ينقصهم الوعى والمفردات اللازمة لوصف ما يشعرون به من أعراض، وشعورهم بالعزلة داخل تلك المعاناة.
أتأمل وجود مصر، الذي يطل من مرجع طب نفسى ألمانى، وأستعيد وجهها القديم القائم، القادر على مداهمتك دوماً في أي لحظة، ورغم كل شىء، وأردد تلك النغمة التي توشك أن يصل عمرها الآن لمائة عام «جدودى أنشأوا العلم العجيب، ومجرى النيل في الوادى الخصيب، لهم في المجد آلاف السنين، ويفنى الكون وهمّا موجودين»