x

أحمد الشهاوي ينطقُون عن الهوى أحمد الشهاوي السبت 21-05-2016 21:51


لا يُجدِّد الدين إلا العارفون، وليس الغُلاة المتسلِّفين المتسلِّقين المتشدِّدين المرتزقين منه، المتاجرين به، السَّاعين إلى ربِّ المال، وليس إلى ربِّ العباد، إذ كيف يحمى اللص- مثلا- بيتًا من بيوت المال، ومن ثمَّ كيف يُجدِّد الدين من كان دينه القتل والنفى والإقصاء والحضُّ على الاغتيال المادى والمعنوى، والحثُّ على التخلُّص من المختلفين معه مذهبيًّا أو دينيًّا؟

كيف يُجدِّد الدين من لم يقرأ قبلا، ولن يقرأ بعدًا، وبينه وبين (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ﴿١﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴿٢﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴿٣﴾ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴿٤﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ليس سوء فهم- فقط- بل عداوة، كما أنه على المستوى الشخص- بعيدًا عن المستوى المعرفى والدينى- ليس فوق مستوى الشبهات، بل هو متمذهب، والإسلام- فى أساسه- بلا مذاهب، والذى يتصدَّى إلى التجديد لا ينبغى له أن يرى التجديد ابتداعًا وضلالة، وزندقة وخروجًا عن الدين، وكفرًا صريحًا. كما أنه لا ينطبق عليه الحديث الشهير: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدِّد لها دينها»، الذى ربما لم يسمع به من قبل.

فلا يمكن أن يكون هناك اجتهاد، وذهاب إلى المعرفة فى ظل وجود أناس ليسوا قليلين يعملون بجد ونشاط على تغييب العقل، وتسييد النقل واعتماده فريضةً أساسيةً، مع فرض الاتباع والتقليد الثقيلين، بدلا للابتكار والخلْق والابتداع، والتلويح بالتكفير لأصحاب التفكير، وإغلاق القوس المفتوح، وتضييق الأفق أمام المُساءلة والبحث والجدال والحِجاج، فى زمنٍ صار ما هو بديهى يحتاج إلى إثباتٍ وشرحٍ وشواهد فى وجُوه المتعصِّبين المتشدِّدين، الذين لا سقف أمام مُخيلاتهم المريضة فى فعل ما يرفضه العقل والدين معًا، إذْ لم يتعوَّد هؤلاء فضيلة التعدُّد والتنوُّع والاختلاف، التى دعا إليها الدين الحنيف، رغم أن الشَّواهد والنصوص والمواقف جليَّةٌ وثابتةٌ فى المتن الدينى الصحيح، لكنَّهم يُسيِّدون متنًا شائهًا يبتعد كثيرًا عن الدين ومبادئه السمحة.

ومشعلو النور من الهُداة والأقطاب الكاشفين (وهم بالطبع على النقيض تمامًا من حزب النور المتسلِّف)، «قاومهم الشعب، لأنه لم يفهم عنهم، وقاومهم السلطان الظاهر، لأنه أشفق منهم، وقاومهم السلطان الخفى، لأنه رأى فيهم قادة الحرية والهُداة إلى الاستقلال، فثبتوا لهذا كله، وانتصروا على هذا كله، وخرجوا من المعركة ظافرين» طه حُسيْن- مستقبل الثقافة فى مصر، القاهرة سنة 1938 ميلادية.

ولم يغب الاستبداد الدينى فى مصر أو فى أى بلدٍ عربى آخر عمَّا كان موجودًا عليه فى زمن طه حُسيْن، بل زاد وفاض، واتخذ أشكالا عديدةً فى القهر والتخلُّص من المُخْتلَف معهم، إذ فى ظل هيمنة واستبداد تُجَّار الدين، والمشتغلين به، تتراجع الحرية فى شتى صورها وتجلياتها، ويتراجع العقل، ويتحالف الاستبداد الدينى مع استبداد السلطة السياسية، التى عادةً ما تسمح للفُقهاء المُوالين- عبر كل العصور- أن يمارسوا رجعيتهم وتزمُّتهم، لتحافظ على وجودها، حيث إنَّ كلا الاستبدادين يحمى الآخر ويحضِنه ويحرسه ويرعاه، ولذا ينزوى العقل الخلاق، ويختفى حتى الموت، ويُكثر الماسكون العُصيان من المنتصف، بدلا عن المقاومة والعِصْيان والدفاع عن فضيلة الحرية.

فلا يمكن لأحدٍ أن ينتظر مستقبلا مشرقًا من دون تضحياتٍ، ومن دون عقولٍ مُستنيرةٍ ترى وتكشف وتفكِّر وتسأل، شريطةَ ألا تكون هناك حريات مشروطة، إذْ فى ظلِّ غياب العقل لا أمل، ولا طموح، ولا سماء مفتوحة على الأرواح، التى وهبت نفسها للانتصار للعلم، بعيدًا عن القمع والتعصُّب تحت لافتة الدين، إذ لا فعلَ من دون عملٍ، ولا إبداع مع إنكارٍ ما للذات من طاقةٍ مشحونةٍ بحرية السُّؤال، ولا وعى حر، مع جمودٍ وتحجُّرٍ وانغلاقٍ وانسداد فى أوعية شرايين العقول، التى تحمل السلطة الدينية على أكتافها، ولا مستقبل مع ثباتٍ، وفهمٍ جامدٍ أحادى لمتْن الدين، حيث لا تتجذَّر الحرية إلا فى ظلِّ التعدُّد والتنوُّع، لأن الله خلق العقل مُستقلا، ليفكِّرَ ويجتهد، وليس يُساق صاحبه كبهيمةٍ، يُملأ من قبل الغير، والعقل الوارث غير العقل الخلاق المُبتدع الذى حاول واجتهد وعرف وجرَّب وخاض غِمار الأمور مرةً ومراتٍ ؛ حتى وصل إلى نتائج تُقنعه هو على الأقل، والعقل ينجُو، لأنه بطبيعته ليس ضالا، حتى لو اتهمه المُختلفون مع طبيعته بالضلالة، إذ العقل لا يُسلِّم بسهولة فهو يسائل المُسلَّمات، ولا يقبلها على علَّاتها، مهما يكُن قائلها أو من توصَّل إليها، حيث لا يقين مطلق، بل دوما هناك شك ومساءلة، فـ(لم يخلق الله يقينًا لا شك فيه، أشبه بشّك لا يقين فيه من الموت)، وإلا ما ورد فِعلُ العقل فى القرآن الكريم فى تسعةٍ وأربعين موضعًا، تدلُّ على التفكُّر والتدبُّر والإدراك والفهم، وقد ذمَّ الله أصحابَ الجهالة، الغبيَّة عقُولهم، والمُقفلة قلوبهم، المتاجرين بكتابه، ودينه فقال: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنفال: الآية 22]، لأن خير ما يُعطَى للمرء هى غريزة العقل، ومحل العقل عندى هو القلب، لأنَّ القلب أمير البَدَن، ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179]، وقد ورد فى الأثر: إن مروءة المرْء عقلُه، والعقل اسمٌ يقع على المعرفة بسلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ، فإذا كان المرء فى أول درجاته يُسمَّى أديبًا، ثم أريبًا، ثم لبيبًا، ثم عاقلاً كما جاء فى كتاب (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء) للإمام الحافظ أبى حاتم بن حبان البستى (ت 354 هـ)، والعقل- كما يشير ابن حبان فى كتابه هذا (... يؤنس الغربة، وينفى الفاقة، ولا مال أفضل منه، ولا يتمُّ دينُ أحدٍ حتى يتم عقلُه، وهو من أفضل مواهب الله لعباده، وهو دواء القلوب، ومطيَّة المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن فى الدنيا، وعُدَّته فى وقوع النوائب، ومن عدِمَ العقل لم يزدْه السلطان عزًّا، ولا المال يرفعه قدرًا، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذَّة دُنياه).

وللأسف هناك الكثيرون من السلفيين والمتسلِّفين من القدامى والمحدثين يعتبرون أصحاب العقُول من الفرق الضالة والمُضلِّلة، بينما هم من الفرق الناجية والعارفة، التى ينبغى عليها أن تدعو إلى الهداية، ليس بالتى هى أحسن، والموعظة الحسنة، ولكن بجزِّ الرقاب، وقطع الرؤوس، واستخدام القتل أسلوبًا وسبيلا لهم، حيث العداء للتجديد جاهزٌ، والتهمة مُشرَعة وشرعيَّة من عينة (الخروج على المعلوم من الدين بالضرورة) مثلما اتهم عبدالصبور شاهين (وكان وقتذاك مستشارا لشركات الريان لتوظيف الأموال، أقصد توظيف الدين لخدمة المال وأصحابه) نصر حامد أبوزيد حول كتابه «الإمام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، الذى صدرت طبعته الأولى سنة 1992 ميلادية.

إن نصر حامد أبوزيد لم يُنكر ما علم من الدين بالضرورة، لكنَّها التهم الجاهزة التى يطلقها المرضى من أصحاب الغرض، مع واحدٍ بدأ من حيث انتهى الآخرون، عاش غريبًا ومات غريبًا، وبقى الجهلاء يرتعون فى الجامع والجامعة، لكن إنجازه سيبقى طويلا سيفا مُصلتًا على رقاب الجهلاء، وعلامة على أن المجتهد حى لا يموت.


[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية