x

صلاح فضل العسكرية المصرية ومائة ألف قمر «1 - 2» صلاح فضل الخميس 19-05-2016 21:24


ماذا يفعل رجل العلم عندما يغويه الفن؟ هل يستثمر طاقته فى الوعى بقوانين الطبيعة ومنطق الحياة الإنسانية لفهم التاريخ وتأديبه، أم يمعن فى مطاردة الخيال النزق والأوهام الكبرى، هذا ما يجيب عليه إبداعياً عالم الطبيعة الكبير الدكتور عمرو شعراوى، الذى شغل منصب أستاذ الفيزياء فى الجامعة الأمريكية، الذى تخصص فى تدريس الفكر العلمى والومضات الضوئية، وشغل منصب العميد الأكاديمى للجامعة، ثم قرر بعد تقاعده أن يجترح أول مغامرة أدبية، فينشر روايته الأولى بعنوان «طوكر.. حكاية مائة وألف قمر» ليقبض على تاريخ العسكرية المصرية فى نشأتها الأولى قبيل ثورة عرابى وما منيت به من خسائر دامت قرابة تسعين عاماً حتى أكتوبر 1973، طبقاً لنبوءة العرافة الغجرية التى قالت وهى ترى كف الراوى:

«يا خير أجناد الأرض لا تنسوا حكم القدر

خير أجناد الأرض ستقهر لمائة وألف قمر»

ثم نفضت يديها منه بقسوة، بعد أن قضت معه ليلة حمراء غاب فيها عن أشباح هزيمته فى معركة التل الكبير، ليفيق على واقع الاحتلال الإنجليزى لمصر، لكن الرواية لا تنتشر على مدى هذه الأعوام الطوال، بل تتركز فى بؤرة الأعوام الثلاثة الفاصلة 1882/83/84 - لتلتقط الومضات الضوئية التى شكلتها الصعقات الحربية فى مصر، وما كان يسمى سودانها على حد قول شوقى:

«فمصر الرياض وسودانها/ عيون الرياض وخلجانها

تتمم مصر ينابيعه/ كما تمم العين إنسانها»

على أن مشكلة الروايات المتصلة بالتاريخ العسكرى أنها ليست فى حل من تغيير نتائج المعارك الحاسمة الكبرى، وقصارى جهدها أن تشرح أسبابها العميقة، وتكشف مفاجآت الأقدار فيها، وهذا ما حاول الكاتب صناعته، فالتمس فى قلب الهزائم بعض البطولات الحقيقية التى أحبطتها الظروف المعاندة، ابتكر تشكيلات محكمة لجيوش هذه الفترة وأسلحتها وذخائرها، وأدار معاركها بحنكة القائد الجسور، وجعل من موقعة التل الكبير ملحمة وطنية لصغار الضباط والجنود، ومن نضال الحاميات المصرية فى السودان أنشودة تضحية وفداء للعسكرية المصرية ضد الإنجليز تارة، ومعهم ضد قبائل الحركة المهدية فى السودان تارة أخرى، فى لوحات حربية ضخمة تمثل جداريات أدبية شديدة البراعة والإتقان، وربما كان طول نفس المؤلف فى رسم هذه اللوحات وجهده الفائق فى وصف تكتيكات الجيوش وكوارث الالتحام وفوضاه وسلوك القادة غير مسبوق فى الرواية العربية المعاصرة، وقد أسعفه اختيار الراوى من أحد ضباط الجيش الشباب، مما أتاح لمنظور الرواية أن يرقب التطلعات الوطنية لهم ويرفض الإدانة المجانية لقادتهم ويكشف سر بلائهم وسبب هزيمتهم، فى رؤية تجمع بين رصد الواقع التاريخى وتفسيره وإبراز نتائجه، خاصة تلك المرارات التى تخلفت فى الضمير الوطنى عنه.

الشعرية الشعبية:

يستهل الكاتب روايته بأول قصيدة من شعر التفعيلة كتبتها الشاعرة العراقية، نازك الملائكة، عن وباء الكوليرا الذى اجتاح مصر نهاية أربعينيات القرن العشرين، لأنها مرثية حزينة مثقلة بشعور الثكل والفجيعة، لكن الرواية فى الواقع تعتمد على شعريتها الشعبية فى صورها ورموزها ومروياتها الموزونة، فهى تقدم مثلاً صورة بليغة لبطل الثورة المغدور عرابى، إذ ينشد الناس له على رصيف محطة كفر الدوار وهو فى طريقه إلى التل الكبير بالقطار: «العسكر بالطوابى/ الله ينصر عرابى» بينما يهتفون ضد قائد الأسطول الإنجليزى قائلين:

«سيمور ياوش القملة/ مين قال لك تعمل دى العملة

يا مولانا.. يا عزيز/ أهلك عسكر الانجليز»

ويشارك الصحفيون والفنانون فى تصوير شاعر المصريين تجاه السلطة بأطرافها العديدة فى هذه المرحلة، فالراوى الضابط الشاب عبدالكريم يحكى ما يراه فى مجلة «أبونظارة» التى يصدرها عبدالله النديم فى يناير 1882م قائلاً: «دخل سعد المويلحى وهو يحمل نسخة من مجلة أبونظارة، على غلافها كاريكاتير يسخر من السقوط المريع لوزارة شريف باشا، نظرت إلى الغلاف فرأيت رسماً لعرابى باشا وهو يحمل راية كتب عليها (مصر للمصريين) بينما يوجد على يمينه عبدالعال باشا حلمى دافعاً الخديو توفيق خارج الغرفة وعلى يساره يقف على باشا فهمى حاملاً مبخرة فى يده، وبجواره شريف باشا الذى حمل حقائبه استعداداً للرحيل، كتب تحت الرسم (سيد العرب عرابى يقول مصر للمصريين)، عبدالعال حلمى يهش الولد الأهبل، وفهمى يبخر المحل حتى تزول ريحة شريف باشا وسيده» ثم يقول الراوى: لم أصدق ما أقرؤه، فهذا الكاريكاتير يستخف بالخديو توفيق ويسميه الواد الأهبل، وما ذنب شريف باشا ليسخروا منه بهذا الشكل؟ ثم يعقب ذلك نقاش حاد يطرح وجهات النظر فى الموقف السياسى، يبرز فيه موقف الشقيق الأكبر للراوى البكباش عبدالرحيم الذى كان مناصراً فى البداية لعرابى يوم مظاهرة عابدين التى خلصت الجيش المصرى من طغيان الضباط الجراكسة، لكنه لم يلبث أن تحول ضد زملائه الطامعين فى الحكم والمناصب السياسية وتغيير النظام القائم، لأن زيادة نفوذ الجيش فى رأيه وتدخله فى السلطة سيؤديان حتماً إلى اختلال نظام الدولة وتدهور حال الجيش نفسه وانقسامه وفقدانه للروح العسكرية، ولأنه لم يحتفظ بهذا الرأى الجرىء لنفسه، بل جاهر به ضد حكومة البارودى وعرابى، فقد صدر أمر بنفيه إلى حامية طوكر بالسودان.

ولم يشاركه أخوه الراوى فى وجهة نظره فى البداية، بل ظل شديد الولاء للثورة، وخاض معركة التل الكبير ببطولة رواها تفصيلاً، وكان مصيره بعد الهزيمة أن اختبأ فى مقابر القاهرة وعمل صبياً للمعلم صالح «الطربى» هروباً من مطاردة الشرطة لكل الضباط والجنود الذين حاربوا دفاعاً عن كرامة وطنهم، وعندما جاء له المعلم صالح بورقة مهربة تحمل عنوان «وصية عرابى السياسية» نشرتها جريدة «التايمز» فى ديسمبر 1882، بعد صدور الحكم عليه بالإعدام وتخفيف الخديو له إلى النفى، شعر بمرارة شديدة وهو يقرأ قول الزعيم: «وأنا أغادر مصر مع الثقة التامة فى حسن مصيرها، لأنى أعتقد أن إنجلترا صارت لا تستطيع أن تؤجل الإصلاحات التى قمنا للمطالبة بها وكافحنا من أجلها» غمره شعور بالشك فى الوثيقة، وتساءل: هل يدعو عرابى الإنجليز إلى إصلاح الدولة المصرية لكى تصبح مصر للمصريين؟ لابد أنها وثيقة مزورة للنيل من عرابى وتشويهه.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية