لا تتحدد قيمة الأعمال الإبداعية وفقاً لطبيعة الوقائع أو المحكيات التى ترويها، مما كان يسمى بالمضمون، كما أنها لا تتمثل فى الأشكال التى يتجلى بها هذا المضمون مباشرة، بل تكمن على وجه التحديد فى الأساليب والتقنيات والوسائل الجمالية الكفيلة بتمثيل نبض الحياة ومنظومة قيمها فى الأدب، ولعل من أبرز التقنيات السردية التى كشف عنها النقد الحديث خاصية «الحوارية»، وهى لا تعنى مجرد الحوار اللغوى بين أصوات الرواية، بل تشمل تعدد اللهجات والرؤى، وتداخل النصوص واحتدام الصراعات، وما يترتب على ذلك من بروز المفارقات الكاشفة عن دينامية النصوص وسيرورة الأحداث، حيث تقوم الحساسية اللغوية المميزة للشخصيات والفئات بتجسيد إيقاع الحياة بشفافية، وتمثيل ما يتفاعل فيها من مشاعر وطموحات تجسد حركة الحياة والثقافة فى المجتمع.
والرواية التى نعرض لها اليوم نموذج بليغ لأصالة هذا التمثيل الحوارى، فهى تجربة فائقة ومثيرة للكاتب الشاب «وجدى الكومى» توفر عليها بعد إنجازه لعدة أعمال روائية وقصصية لافتة، يقدم فيها ثمانى شخصيات يروى كل منها مواجده وأحوال عالمه المتشابك مع الآخرين خلال السنوات الأخيرة فى القاهرة، بل فى منطقة واحدة فيها هى بين السرايات والدقى، التى ظفرت بحفريات المؤلف الطوبوغرافية والإنسانية، أما الشخصيات التى عمرت هذا المكان فهى شديدة التناقض والتجاذب، حتى ليذكرنى هذا المكان بلحد أبى العلاء المعرى الذى كان يقول عنه:
رب لحد قد صار لحدا مرارا.. ضاحك من تزاحم الأضداد ودفين على بقايا دفين.. فى طويل الأزمان والآباد
فهى نماذج ترتطم ببعضها بالصدفة غالباً، تتراءى وتتوارى، تهدف وتكشف، تعيش حيواتها المتناقضة وأحلامها المتصارعة لتجتر شهواتها وعداواتها دون حب أو تعاطف، وهى ذكورية فى معظمها لا تتخللها سوى امرأة واحدة هى شفق إبراهيم، التى تطل من البداية فى منظور الآخرين، ولا تظهر سوى فى الفصل الأخير، ومع أن ثورة يناير أصبحت محطة معتادة فى ختام الروايات الجديدة تحدد المصائر بطريقة مريحة، وتعفى المؤلفين من ابتكار خواتيمهم، لكنها هنا تمتد لأول مرة لتغطى بعض الوقائع التى لحقت بها، مثل صراعات الثوار وأحداث الفوضى وحمى الهوس الدينى وتمزقات النسيج الوطنى وافتعال الفتن الطائفية وقيام فصيل من تيار الإسلام السياسى بخطف الفتيات المسيحيات وإغرائهن بالتأسلم، وتواطؤ الأجهزة الأمنية وتغولها الشديد، هذه البؤرة التى تركزت فيها مؤشرات الرواية تتولد منها أهم التقنيات الفنية، ابتداء من اختيار الشخصيات الثمانية التى تكاد تتوزع بالتساوى على الطرفين المسلم والمسيحى، إلى تعدد اللهجات والحوارية التى تدفعها مروراً بهوية المكان وأسرار التاريخ.
حساسية اللهجات
سنختار ثلاثة نماذج فقط تبرر طاقة اللغة السردية وقدرتها على تجسيد العوالم المتشابكة فى مستوياتها الثقافية، وتمفصلها الطائفى، وتفاوتها الاجتماعى، على الرغم من تناغمها الوطنى الغلاب، أولها أحمد خريشة الذى يدير مجموعة من شباب بين السرايات تتفاوت فى مواهبها لكنها تتفنن فى إقامة الحفلات الموسيقية، وصناعة ما أصبح يسمى بالمهرجانات وتسجيلاتها التى توزع على سائقى «التكاتك» والميكروباصات لتشبع حاجة الناس من فن الغناء الشعبى والرقص العفوى والتنفيس عن مشاعرهم التلقائية، مثل الكلمات التى تستهل بها الرواية «يا ما عشنا وشفنا كتير/ على الشباب دا أمر خطير/ من اللى بيقطّع فى دراعه/ واللى واخد برشام صراصير»، لكننا نرقب اللحظة التى زارته فيها السيدة شفق إبراهيم لتسأله عن موقع عزبة الوقف، يحكى خريشة بلهجته: «كنت أشرب الشاى مع إيهاب تكنو، وحمدى ميكس، ونبتكر تراكات جديدة، هتف الولد دسوقى منادياً: يا عم أحمد، يا عم أحمد وهو يشير إلى المرأة التى كانت تبكى دموع الكحل، قلت له: خير ياض؟ قال: الحتة دى عاوزاك يا عم أحمد، قلت لها: خير يا ست الكل؟ قالت لى فى خفوت: أنت معروف هنا، فكرت أطلب مساعدتك، قلت لها فى حماس: يا سلام، انت تؤمرى، إحنا نحب نخدم أى إيفكت، أؤمرى، قالت: تعرف منطقة قديمة هنا كان اسمها زمان عزبة الوقف»، لاحظ على التو التباين الشديد بين السرد والحوار، فالأول وإن كان على لسان الشخصية ذاتها يلتزم بالمستوى اللغوى الفصيح، أما الثانى فهو غارق فى الطابع المميز للبيئة العامية، مثل «ياض» و«تراكات» و«الحتة» و«الإيفكت» من نطق عامى للكلمات العربية والمعربة عن الإنجليزية للدلالة على مستواه النفسى والاجتماعى ولوازمه التعبيرية.
أما النموذج الثانى فنأخذه من الفصل الذى يحكى فيه «الأنبا» وهو يستعرض السنوات الأخيرة منذ عام 2010، حيث يقول: «أربع سنوات وملف شفق لم يزل مفتوحاً، توفى خلالها البابا، وجلس على كرسى مارمرقص سيدان، وسقط خلالها رئيسان، وحكم من بعدها رئيسان، أربع سنوات تتقلب الأبدان، تتزاحم هموم فتولد أخرى، مات خلق وبعثوا، وهدمت بيوت للرب وبنيت أخرى ولا تزال حدوتة شفق هى شاغل بال البعض أربع سنوات تختفى هذه الضالة عن ملكوت الرب وتستدعى الشرطة بعضاً من أبنائنا وشعبنا لسؤالنا عن ورطتها مع الشيخ الداعية المتطرف، أربع سنوات لا يهتم السادة إلا بضالة، كأنهم يرغبون فى استعراض قوتهم وجبروتهم، مثلما كانوا يفعلون قبل الثورة مع الهاربات اللائى كن يخرجن عن الملكوت ويهربن من الحب الصادق إلى الضياع».
ولهجة الأنبا هنا ليست مغموسة فى زيت الشعب ولا معمدة بماء طبقاته الفقيرة، ولكنها غارقة فى أجندتها الزمنية ومصطلحاتها وهمومها الكهنوتية، وشاغلها الأساسى هو الصراع الدينى عبر اختبارات الإيمان والضلال، ومنازعات الولاء والخروج من الملكوت الكنسى دون رفق بالضحايا.
وفى مقابل هذه اللهجة نضع مقتطفاً صغيراً من خطاب «أبوحمزة» ممثل الإسلام السياسى، وهو نموذج يوشك أن يتطابق مع نظيره فى الواقع الذى طغى فى فترة المد الدينى وبلغ درجة الطموح للترشح للرئاسة، وقاد حصار مدينة الإنتاج الإعلامى والاعتداء على مقار الأحزاب الأخرى كما فى الرواية، ويسمى فى الرواية «أبوحمزة» الذى يحكى عن والده وهو يقول له «لا أروع من الحضارة الإسلامية يا حمزة.. لقد ضيعت أسرة محمد على حلم الخلافة، وحارب الملعون وابنه المسلمين فى الحجاز وأخروا نشأة الدولة السعودية فى بدايتها، وكادوا أن يقتلوا الخليفة فى عقر داره بتركيا، وهو ما أضعف الخلافة وقضى عليها، ومن بعد محمد على ضيع العسكر الحلم تماماً، اغرس فى قلبك فكرة الأمة.. تذكر ثلاث كلمات ورددها دائماً: الأمة والجهاد والمحنة، وأن الصمت أعذر لنا أحياناً عن النطق بما يوردنا إلى المهالك». تنتزع رواية «إيقاع» من أحشاء الأحداث التاريخية ومسار الشخصيات التى تحكى قصتها جوهر العناصر المحركة لها فى تمثلاتها الجمالية وتقنياتها التعبيرية، وتدمغ أصواتها بنبرتها المجسدة لأحلامها وأوهامها، وتجعل تباين اللهجات تعبيراً عن النزعة الحوارية الكاشفة عن تفاصيل الأصوات وتداخلها.
المكان سر التاريخ
وجدى الكومى مولع بمكان محدد هو بين السرايات، كشف جانباً من أسراره فى روايته السابقة «خندق العذراوات» وأهدى روايته الحالية إلى «الخواجة رالف: لما له من فضل فى كشف أسرار عزبة الوقف»، لكن الواقع أن هذه الأسرار تضمر شيئاً آخر يتصل بتاريخ أسرة محمد على، والمؤلف يشكر فى النهاية عالم الآثار الألمانى «رالف بودنيشتاين» لعونه له فى العثور على الخرائط الحقيقية، وقد جعله شخصية راوية شاركت فى الأحداث خلال عمله أستاذاً زائراً فى كلية الآثار بالقاهرة وأسماه «شاندور»، لكن الوثيقة التى يضعها الكاتب فى صدر الرواية ويمهرها بتوقيع الخديو إسماعيل، ويرد فيها قوله: «سمحت إرادتنا أن نمنح خادمنا بقطر الجاولى وأفراد أسرته الصغيرة مشمول حدائق وفدادين عزبة الوقف البالغة مساحتها ألف ألف ذراع فى بقعة من أروع بقاع الجيزة الغناء الواقعة بين سرايات أبنائى البرنسات حسن وحسين، وأمام حقول وجنات ابنتى البرنسيسة فاطمة... إلخ».
هذه الوثيقة، على جهد المؤلف فى محاكاة نظائرها لا يمكن أن تكون إلا من صنع الخيال، حيث تزعم شفق أنها عثرت عليها ضمن أوراق جدها وعرفت سرها من يومياته التى يعترف فيها بأنها منحت له بعد أن ولدت زوجته جوليان ابنة نسبتها إليه وهو عاقر عقيم، لأنها كانت خليلة للخديو تصحبه فى أسفاره فكافأها وأسكت زوجها بمنحه هذه العطية الكريمة.
وتتكشف أحداث الرواية عبر تناوب شخوصها الثمانية على السرد بطريقة ماهرة يلتقط كل منهم الخيط دون تكرار لما قصه السابق بما يجعل الزمن يتقدم والمواقف تتعقد تلقائياً بعد مسرحة الأحداث فى موقعها المقابل لحدائق الأميرة فاطمة التى أصبحت جامعة القاهرة، وأقيم مصنع الكحوليات مكان سرايا الأمير حسن، وشيدت كلية الفنون التطبيقية على أنقاض سرايا الأمير حسين، ويتتبع الكاتب تسلسل هذه المواقع ليضفى على سرديته طابعاً تاريخياً موثقاً يلتقى مع توثيق الفترة المعاصرة بشخوصها وأحداثها، حيث شهدت المنطقة اعتصام ميدان النهضة وفضه الدامى.
وإذا كانت شفق وزوجها عزيز والأنبا يمثلون الطبقة القادرة من الأقباط، فإن «جوجو» فنان المهرجانات وشقيقه ينلو، بلطجى مثلث ماسبيرو الذى شارك فى تأجيج أحداث دهس المتظاهرين أمام مبنى التليفزيون، وشارك فى خطف «دميانة» محبوبة أخيه، واعتدى قبل ذلك على «شاندور» عند وصوله إلى القاهرة، يمثلان بدورهما قاع المجتمع المصرى بطائفتيه معاً، وما أصابه من انتكاس فى التمييز الطائفى واستهتار بالقيم المستقرة فيه، وربما نجد تفاوتاً شديداً فى إيقاع الرواية فى بدايتها التى تنصت لزقزقة العصافير المهاجرة من بساتين بين السرايات خلال تحولها إلى مساكن عشوائية بما يمثل افتتاحية موسيقية للرواية، وبين مشاهد الدم والعنف والقسوة الفاحشة عند مشرحة زينهم عقب فض اعتصام رابعة والنهضة بما يدمغ الرواية بطابع مأساوى مفزع يجسد هذا الصراع الذى احتدم بين الأطراف خلال الثورة وبعدها، غير أن تداول السرد بين رواة متنوعين، كل منهم يحملنا على موجته ويبوح لنا بأحزانه ويعبر عن رؤيته، قد جعلنا أشد قدرة على الوعى بمفارقات الحياة وأعمق فهما لنزعات الطوائف وطموحات الأشخاص الذين يبررون مواقفهم ويدافعون عن سلوكهم بحيث نتحير إن اقتصرنا فى وعينا على معطيات الرواية بين تسمية الجلاد وتحديد الضحية، فجدل الأصوات المتحاورة وإمساك كل منها بقبضة من الحقيقة على الأقل فى تصوره يعمق شعورنا بخطورة الرؤية المحايدة بقدر ما يجعل تصوراتنا عن المستقبل البعيد ضبابية مبهمة، ويظل العمل فى جملته فريداً فى خصوبته، موجعاً فى القبض على الجراح الوطنية، فذًّا فى تمثيله الجمالى للحياة.