لما واحد مذيع، فى برنامج هايف، فى قناة تليفزيونية تافهة، يسخر من الشهداء والجرحى فى سوريا، فهو أمر متوقع فى هذه المرحلة بالغة السفالة من تاريخنا المصرى المنفلت، والعربى المهترئ، والإسلامى المنبطح، وحينما تتلكأ تلك القناة فى اتخاذ موقف، ثم تأتى لتقول إنه يعبر عن رأيه الشخصى، فهى قمة الانحطاط، ذلك لأننا أمام أمر لا علاقة له بالمواقف الشخصية، نحن أمام حماقة وعدم إحساس بالمسؤولية، أمام شخص كان على إدارة القناة تحويله إلى طبيب نفسى لإعادة تأهيله وتقويمه، كأقل إجراء يمكن اتباعه فى مثل هذه المواقف.
لا أعتقد أن شخصاً ما يمكن الاستعانة به فى تقديم برنامج تليفزيونى، فى أى فضائية، مهما كانت ضآلة نسبة مشاهديها، دون أن يخضع هذا الشخص لاختبارات من كل نوع ولون: عقلية، وثقافية، وتاريخية، ووطنية، من البديهى أن يعرف قيمة الوطن، أن يعى معنى التضحية والفداء، أن يدرك معنى الشهادة، أن يتعلم أصول العمل الإعلامى، أن يتدرب على قواعد مخاطبة المشاهدين، أن يحترم مشاعر الناس، أن يعى آلامهم.
الغريب أن أحداً من المحامين إياهم، بتوع البلاغات إياها، لم ينتفض ببلاغ ازدراء للشهداء، ولا للأشقاء، ولو حتى من باب الشهرة، ذلك لأن العينة واحدة، جميعهم من فصيل واحد، ذلك البرلمانى المنافق، كالمذيع العبيط، كالمحامى إياه، كلهم أبناء المرحلة، لا يدركون معنى الشهادة، ولا قيمة الوطن، ذلك لأن النخوة لم يعد لها وجود، ولِمَ لا؟ هؤلاء هم الذين قالوا تيران وصنافير سعوديتان، أيضاً هم الذين قالوا: «ونديهم الهرم كمان لو أرادوا». إذا كنا نعانى، أيها السادة، من أجيال الشيبة، من الإعلاميين الذين اعتادوا الهزيمة والانتقال من مائدة إلى أخرى فى كل العصور والأزمان، نحن الآن أمام أجيال جديدة لم تشارك الناس ولو جزءاً من معاناتهم اليومية، بدأوا حياتهم بأموال الفضائيات، قضوا أوقاتهم طولاً وعرضاً بين الحانات والمواخير، برامج الليل وآخره بالنسبة لهم ما هى إلا إحدى فعاليات التسلية اليومية على خلق الله الغلابة من أقصى البلاد إلى أقصاها.
من الطبيعى إذن أن نشهد سخرية من الشهداء، أو تندراً على الجرحى، أو حتى تشفياً فى البيوت المهدمة، أو الأطفال المشردين، والنساء المُهَجَّرات، وما زاد الطين بلّة هو أن الجمهور يضحك ويضحك، كرد فعل على ما يردده ذلك البلياتشو، وكأنهم أمام مسرحية كوميدية، رغم أنها والله قمة الدراما والمأساة، إلا أنها العقول المغيبة، التى لم تعد تردد الأناشيد الوطنية فى طابور الصباح المدرسى، كما لم تعد تسمع الأغانى الوطنية فى جهاز الترانزستور المنزلى، كما لم تعد تشهد إنتاجاً تليفزيونياً، ولا سينمائياً جاداً من أى نوع.
لا أعتقد أبداً أننا جميعاً لن نُحاسَب على ما عاناه ويعانيه الشعب السورى الشقيق، لا أعتقد أبداً أن هناك شعباً عانى مثل هذه المعاناة منذ الحرب العالمية الثانية، لا أعتقد أبداً أن أطفال ونساء سوريا، ولا حتى رجالاتها، من الشهداء والمشردين والمهجرين، لهم ذنب فيما يجرى، كلنا ندرك أن ما يجرى فى سوريا هو بفعل أموال النفط العربية، هى تصفية حسابات طائفية لا علاقة لها لا بالربيع ولا بالخريف، حتى المتورطين من أبناء الشعب السورى تم الدفع بهم فى أتون هذه الحرب لهذا السبب الطائفى، وإذا لم يجدوا الوقود العربى، ممثلاً فى المال والسلاح، ما كان لهم أن يستمروا.
إذا علمنا أن هناك 48 جنسية، عربية وغير عربية، تحمل السلاح على الأراضى السورية ربما يمكن أن نفهم سراً من أسرار هذه الحرب، إذا علمنا أن تنظيم ما يُسمى الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش» تمت صناعته فى سجن جوانتانامو الأمريكى، ربما نفهم سراً آخر، إذا علمنا أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين قال: «إننا لن نجد ميدان معركة أفضل من ذلك لنُجرب فيه أسلحتنا»! ربما نفهم سراً ثالثاً، إذا علمنا أن تصفية الحسابات السعودية- الإيرانية تتم فى ذلك الميدان، بعيداً عن جغرافيا البلدين، ربما نستطيع فك طلاسم الحرب الكارثية.
الشعب السورى الشقيق، أيها السادة، يسدد فواتير ما أنزل الله بها من سلطان، ليس له بها ناقة ولا جمل، يسددها الأطفال غرقاً فى عرض البحر، كما تسددها النساء تحت الأنقاض، كما يسددها التراث والأسواق والمآذن والمساجد والشوارع، إلا أنها سوف تظل شاهداً لعقود طويلة على الخيانة العربية، التى كانت فى الماضى سياسية فقط، أما فى زمن الرويبضة فقد أصبحت الخيانة إعلامية أيضاً، وهو ما يجعل ألم المستضعفين مضاعفاً.