فى عام ١٩٨٧، هاجم أحد رؤساء تحرير إحدى الصحف الخليجية أستاذنا الراحل، وجيه أبوذكرى، فى مقال بمساحة نصف صفحة، أذكر أن الأستاذ وجيه رد عليه بصحيفة الأخبار فى نصف سطر قائلاً «كلب فارسى بالخليج، أراد النيل من رباط حذائى، وأنا من عادتى ألا أرد على الكلاب»، هكذا تعلمنا من الكبار، التأفف والتعفف حتى عن ذكر اسم ذلك الكلب أو ذاك، وأن خير الكلام ما قل ودل.
بعد ذلك بعام واحد ١٩٨٨، حصلتُ على جائزة الصحافة المصرية عن فن التحقيق الصحفى، ولم تكن الساحة الصحفية قد أتخمت بكل ذلك الغث الذى تعانى منه الآن، والذى وصل إلى حد أن رئيسة تحرير إحدى المجلات الأسبوعية، قامت ذات يوم بطرد أحد الصحفيين بعد أن اكتشفت أنه قام بالتسجيل لها، فى سابقة بالتأكيد هى الأولى من نوعها وربما الأخيرة، ما بين تلميذ جربوع وأستاذته، التى يشهد لها الجميع بالاحترام.
أذكر أيضاً أن إحدى الزميلات طلبت مقابلتى ذات يوم حينما كنت رئيساً لتحرير الأهرام، (خلال فترة حكم الإخوان)، وقالت أنا زوجة فلان الصحفى بالأهرام، جئت أشكو من أن حوافز الشهر الماضى تم خصمها منه، قلت لها: معلوماتى أنه لا يعمل، بل لا يأتى للصحيفة، قالت إنه مريض، مما جعلنى أتعهد لها فوراً بإعادة الحوافز، إلا أننى حينما شرعت فى تنفيذ ذلك رسمياً، أخبرنى الزملاء بأن هذا الشخص يعمل فى صحيفة أخرى، ويذهب إليها بصفة يومية، أى أنه مريض بالنسبة للأهرام فقط، وأن هذا استنطاع، ما قبله وما بعده، وأنه يستغل الكتابة فى الصحيفة الأخرى بالسب واللعن فى أى رئيس تحرير لا يلبى مطالبه.
بالتأكيد مثل هذا الشخص لا يعرفنى، ولم يلتق بى ذات يوم، لأننى تعاملت بحسن النية مع الموقف، ولم أُصر على حضوره الجريدة، وتركته لضميره، الذى قبِل الحصول على راتبه وحوافزه دون عمل، وأعلم أنه مازال يتاجر بحكاية المرض هذه حتى الآن، وأيضاً مازال دائم التحرش بكل خلق الله، عَل وعسى يبتز هذا أو يتقرب من ذاك، كما أنه لا يجيد سوى هذه اللغة البذيئة، ولم يكلف نفسه ذات يوم عناء الاطلاع على الأرشيف أو الملف الصحفى لهذا الشخص أو ذاك قبل الاقتراب منه، ذلك لأنه سوف يفاجأ بملايين السنين الضوئية فارقاً، مما يجعل أصحاب مثل هذه الملفات لا يتعطلون عن العمل أبداً، حتى وإن تكالب عليهم السفهاء.
المهم أنى تذكرت هذه الوقائع مع إعلان الحكومة موافقتها على قانون الصحافة والإعلام، والذى أرى أنه مع قوانين العمل عموماً لم يتناول الكثير من الجوانب الخاصة بالاستنطاع فى العمل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قضايا البلطجة فى العمل أيضاً، والتى يرى بعض عديمى النخوة، أن رب العمل عليه أن يتقبل أى إهانة من أى مرتزق أو مرتزقة، مادام قد قبل بالمنصب، وآخر ما كنت أتوقع هو أن تستشرى عملية انعدام النخوة هذه إلى هذا الحد، إلا أن ما يُهون من الأمر، هو أن من يرتضى لنفسه الوضاعة، بالتأكيد سوف يرتضى الكثير من أشباهها.
ما أثار انتباهى أيضاً فى القانون هو أنه اشترط للحصول على ترخيص الصحيفة اليومية تسديد مبلغ ثلاثة ملايين من الجنيهات، وهو ما لن يكون فى مقدور أحد سوى رجال الأعمال، حتى فى حالة إنشاء شركة مساهمة، سوف يظل فى كل الأحوال رجال الأعمال فقط، هم الذين يستطيعون القيام بذلك، وهو الأمر الذى كان فى حاجة إلى تفصيل، بحيث يتم النص على التفريق فى هذا الشأن، بين من يتعاملون مع الأمر كرسالة، وبين غيرهم من الذين يتعاملون معه كمشروع تجارى مربح، أو حتى غير مربح، لهدف ما.
لم يحاول القانون الجديد أيضاً الارتقاء بتشكيل مجالس الإدارات والجمعيات العمومية، وذلك بجعلها بالكامل بالانتخاب، حتى تكون تعبيراً حقيقياً عن العاملين، فأصر على وجود نسبة التعيين سواء فى مجلس الإدارة، أو الجمعية العمومية، وهى عادة قديمة لم تعد لها أى حاجة فى وقتنا الحاضر، ناهيك عن أن كل الشروط التى تم النص عليها لاختيار رؤساء التحرير لا علاقة لها بالمهنة من قريب أو بعيد، مثل النص على ألا يكون قد حصل على إجازة بدون راتب، دون الأخذ فى الاعتبار أن هذه الإجازة كان الصحفى يعمل خلالها أيضاً صحفياً، سواء داخل البلاد أو خارجها.
على أى حال، أرى أن واضعى القانون يدركون تماماً حجم المأساة التى تعيشها الصحافة هذه الأيام، وحجم ما تعانى منه من أمراض أخلاقية، وحجم السفه والسفالة التى تعانى منه المهنة من كل الوجوه، وهو الأمر الذى أضعف من موقف الصحفيين فى المطالبة بحقوقهم، وفى الوقت نفسه استغله المشرعون فى فرض إرادتهم على هؤلاء الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء التوجه إلى مقار عملهم، ولا حتى فى البوفيهات بين العمال.