(نقلا عن جريدة الحياة اللندنية)
فى موازاة الذكرى المئويّة لاتّفاقيّة سايكس- بيكو، والذكرى الثامنة والستين لنكبة فلسطين، يبدو التاريخ ذاك المحيط الذى يغمرنا ولا يترك للمستقبل ما يتعدّى مساحة جزيرة.
وفضلاً عن التاريخ الصريح الجاثم دوماً بكلّ جلاله، مصحوباً بأقدار معتبرة من التزوير والكتابة المزغولة، هناك التاريخ المكبوت الذى يعود إلى المشرق العربىّ عودات متفاوتة، بل متضاربة. وقد لا يكون واحدنا مسرفاً فى التأويل إذا قال إنّ الثورة السوريّة كانت مناسبة كبرى لبعض هذه العودات المشرقيّة. ذاك أنّ ما لم يفعله موقع سوريا المركزى وتداخل تاريخها بتاريخ جيرانها، فعلته الهزّة العميقة التى أحدثتها الثورة فى الإقليم برمّته.
ففى لبنان مثلاً ظهرت مواقف لا يسهل فكّها عن التاريخ فى تعدّد صيغه ورواياته. فهناك تاريخ الذين أحبّوا الوحدة مع سوريا واعتبروا قيام لبنان انفصالاً عنها وبتراً لها، فتعاملوا مع الثورة بوصفها ثورتهم، لا بوصفها الثورة التى يؤيّدونها ويتعاطفون معها كمواطنين فى بلد آخر. وهناك تاريخ الذين خافوا دائماً من سوريا الأكبر والأقوى، والتى مارست عليهم، لعقود، وصايتها وقسرها، فأخذوا ثورتها بجريرة نظامها وكرهوا الإثنين. وهناك تاريخ الذين انتقلوا من المقدّمة نفسها، أى الكراهية لسوريا، لكنّهم كرهوا الشعب وحده، ظانّين أنّ النظام لم يفعل سوى ترويض العدوانيّة الجوهريّة فى الشعب، وهكذا أذعنوا للنظام فى سوريا بعدما عاشوا مذعنين له فى لبنان. وهناك تاريخ الذين أيّدوا الثورة بعدما صادروها فسيطروا على تأويلها، مقدّمين عنها رواية متشاوفة وعوجاء مفادها أنّ «ثورة الأرز» أمّها الوالدة.
لكنّ العوارض المشابهة التى ظهرت فى فلسطين أتت أوضح وأكبر وأخطر. والعارض الأبرز هنا كان المنافسة على مبدأ الثورة والاستحواذ عليها. وقد سبق لإلياس كانيتّى أن تحدّث عن مرارة بعض الفرنسيّين حيال الثورة الروسيّة، لأنّ مصطلح ثورة، قبل الثورة الروسيّة، كان لا يعنى إلاّ الثورة الفرنسيّة.
ففلسطينيّو هذا الموقف إنّما شابهوا اللبنانيّين الذين قالوا إنّهم ضدّ سوريا خوفاً على كيانهم، لينتهوا ضدّ الشعب وحده من دون النظام. صحيح أنّ الوطنيّة الفلسطينيّة ترتاب تقليديّاً بالوطنيّة السوريّة التى اعتبرت فلسطين «جنوب سوريا»، الأمر الذى يرقى إلى زمن المؤتمر الوطنى السورى فى عهد فيصل بن الحسين القصير، وإلى تنازع الهوى البريطانى فى دمشق والهوى المضادّ للبريطانيّين فى القدس. وقد ظهر التنازع فى صيغ مختلفة إبّان حرب حافظ الأسد على ياسر عرفات الذى لم يكن عنده «القرار الوطنى المستقل» سوى صرخة فى وجه الأسد وهيمنته. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ العاطفة الفلسطينيّة الأقوى تتمسّك بما أنتجته سوريا الرسميّة لجهة تحويل فلسطين «قضيّة مركزيّة» تمنع أيّاً من الشعوب العربيّة، ولا سيّما الشعب السورى، من أن تكون لها قضايا. هكذا صار إنتاج النظام السورى هو إيّاه تراث الوطنيّة الفلسطينيّة فى نسختها الرائجة.
وهذه نسخة لا تسائل الأسدين، الأب والابن، عمّا فعلاه بالفلسطينيّين، بل عمّا فعلاه بقضيّة فلسطين ذاتها التى خفضها الألم والمعاناة الاستثنائيّان للسوريّين إلى مصاف العاديّة. لكنّها أيضاً لا تسائل النفس بشىء من الأمانة: هل نظام كنظام الأسد هو ما يُشتهى أن يقوم فى فلسطين التى يُراد تحريرها؟، وأى تحرير سيكون ذاك؟.