إذا كان قطار الدرجة الأولى الإسبانى الفاخر يعانى من قذارة حماماته فلك أن تتخيل بؤس قطارات الأرياف.
قطارات الأرياف، والتى يستقلها يوميا آلاف الطلبة والموظفين البؤساء والفلاحين محدودى الدخل. أنت طبعا تتوقع القذارة والزحام. أنت تتوقع الروائح السيئة الناجمة من عدم النظافة وقلة الاعتناء. كل هذا تعرفه مسبقا، لكنك لن تتخيل- لو كنت من سكان القاهرة- حقيقة الأحوال.
هناك أسطال لبن وسلل خضروات وجبن وزبد ملفوفة فى طرح حريمى سوداء. فى هذه القطارات يتحقق الانسجام، ليس بين البشر فحسب، بل بين الحيوانات والطيور. فرب بطة تحملها ريفية مسنة تمد عنقها الطويل فى فضول لتتأمل هذا الزحام غير المعقول، توطئة لأن تكاكى بمنقارها العاجى فى استغراب. ورب معزة تثغو بصوتها الرفيع فى القطار وتسلى نفسها بمضغ كراريس الطلبة. ورب كيس جبن قريش فلاحى يصر على رأسك المحترم لأنه موضوع فوق الرف، مختلطا برائحة أقدام شاب ريفى، لم يجد مكانا إلا فوق الشبكة الحديدية، مؤرجحا قدميه بالقرب من وجهك، مع رائحة عطنة نفاذة تصيبك بالإغماء.
..............
حرمة الجسد الأنثوى للريفيات الحسناوات معرضة للخطر من شدة التزاحم. على أن الاحتكاك الذى يحدث فى الصباح، فى نور ربنا، يعتبر مزاحا مع ما تتعرض له الفتيات حين يسود الظلام. لأن اختراع المصابيح لم يصل بعد، أو ربما وصل ولكن تتم سرقتها بانتظام. تتعلم الفتيات الصمت الحكيم لأن هناك أسلحة بيضاء تظهر عند اللزوم. كما لا يوجد معنى للاحتماء بالكمسارية لأنهم فى حاجة لمن يحميهم.
وهذا كوم والزجاج المكسر كوم آخر. التراب طبعا هو آخر ما يفكر فيه هؤلاء، ولا حتى البرد القارص المتسرب من النوافذ المكسورة. المشكلة فى الطوب! والطوب هنا يعتبره الريفيون من حقائق الحياة. لسبب ما يعتبر الأطفال الريفيون أن قذف القطارات بالطوب هى المتعة الرئيسية بالنسبة لهم. فينهمر الطوب على الركاب من خلال النوافذ المهشمة ليبطح ويبدد. ومنعهم مستحيل واقعيا لاستحالة قفزك من القطار لتأديبهم.
عند اقتراب القطار من المحطة تتراجع الحشود الآدمية فى قلق مع وضع الرأس بين الكفين. تلك هى اللحظة الحاسمة التى انتظروها طويلا للتنشين. والويل لك لو جلست جوار النافذة. ستنال فورا صفعة على خدك حيث يوجد مركز الكرامة تشريحيا. أمنية الريفيين تنحصر فى سد النوافذ بالخشب الحبيبى رخيص الثمن. طبعا لا مجال للحديث عن متعة مشاهدة اللون الأخضر من خلال الزجاج المصقول فتلك أشياء لا تخطر أصلا ببالهم.
تؤمن هيئة السكة الحديد عندنا أنها تملك كل الوقت فى العالم. هل أفادت السرعة من سبقنا؟ وهل أضر التأنى من مات قبلنا؟ الدنيا أصلا فانية والكل سيؤول إلى تراب.. لذلك يسير الهوينى بعرباته المتأرجحة. ينتظر قطارا مواجها فى الاتجاه المعاكس. يتيح مجالا لقطار أسرع. يتأخر الطلاب أو لا يتأخروا. يصل الموظفون فى موعدهم أو لا يصلون أصلا. لقد اتفقنا من قبل أن الدنيا إلى زوال.
يتكون القطار من عشر عربات، فيها طفاية حريق واحدة، وغالبا لا تعمل. لكن هناك الكثير من مواقد الكيروسين لزوم الشاى غالبا ستحرق بنطلونك! وإذا نجوت بأعجوبة فهناك مشكلة الهبوط. فأنت لا تنزل من هذه القطارات وإنما تقفز! ذلك أن رصيف المحطة لا يوجد أصلا لسبب مجهول.
........................
والحقيقة أننا كائنات تعيسة الحظ لمجرد ولادتنا فى مصر فى هذه الحقبة الزمنية بالذات.