ربما كان الأمر كله مصادفة وهو أن كلًا من مصر والسعودية أنتجتا فى وقت واحد تقريبا «رؤية ٢٠٣٠»، وفى كليهما نظر البلدان لموقعهما الحالى فى المؤشرات العالمية، ثم بعد ذلك حددا ما يصبوان الوصول إليه خلال الفترة الزمنية المقررة ـ ١٥ عاماـ من مكانة فى ذات المؤشرات. كيف نصل من هنا إلى هناك جرى التنويه عنه بدرجات مختلفة من الوضوح، وبينما جرى تعديل وزارى فى مصر مع عرض برنامج الحكومة باعتباره خطوة العامين ونصف الأولين فى تنفيذ الرؤية، فإن السعودية خطت خطوات أكثر عمقا فى هذه الاتجاه عندما أعلنت عن «إعادة هيكلة» مجلس الوزراء السعودى، ومن بعده إعادة هيكلة البيروقراطية السعودية من حيث الكم والنوع والمفاهيم، ولم تكن هناك حتى مشكلة فى نقد سياسات وزارة الدفاع السعودية تمهيدا لتصحيحها ووضعها على طريق الرؤية المعلومة.
البروفيسير «نيوتن» والأستاذ سليمان جودة احتفلا فى يوم واحد بما آلت إليه الرؤية السعودية وما جاء فيها من «إعادة الهيكلة» و«إعادة النظر» فى المفاهيم، مع طرح تساؤلات مشروعة عما إذا كان ذلك واجبا حدوثه فى مصر لأنه بدون ذلك فإن «الرؤية» المصرية تصبح نوعا من خيالات المنام، وليست مشروعا للتنمية المستدامة، والانطلاق الكبير، والتقدم العظيم. فما الذى يا تُرى نحتاجه حتى نلج إلى الطريق الذى ولجته السعودية، وبالمناسبة ذهبت إليه الإمارات العربية المتحدة من قبل، وطبقا لآخر التقارير الدولية فإن دولة المغرب الشقيقة سارت على نفس المنهاج؟ هناك بالتأكيد من المتخصصين والفنيين من يستطيعون الإجابة عن هذا السؤال أفضل من الكُتاب، ولكن هؤلاء يستطيعون الاجتهاد والنظر فيما فعل الآخرون وهم يواجهون السؤال الصعب: لماذا تخلفنا، ولماذا تقدم الآخرون؟ واجتهادنا سوف يكون ملخصه أن تصير مصر دولة «طبيعية»، وهذه مقولة طالما قمت بترديدها دون جدوى فى العهد المباركى، وما كان قبله، وما جرى بعده. فلا يمكن لدولة أن تتغير بأدوات عصر بينما تصمم طوال الوقت أنها تقع فى منطقة الاستثناء منه، وأن ما يرد عليها لا يرد على غيرها من الدول، وبذلك فإنها ابتداء قررت أن تكون خارج العصر والزمن الذى ترغب فى الاقتداء به.
الرئيس السيسى وصف المسألة بطريقته بأنه يوجد فى مصر «شبه دولة»، وفى مجال آخر قال إننا نحتاج ٢٥ عاما لتطبيق الديمقراطية، وفى حديث قال إن المعايير الغربية فى مجال حقوق الإنسان لا ينبغى تطبيقها على مصر. ضع كل ذلك فوق بعضه وسوف تجد أن حالة مصر غير طبيعية، وتصبح المهمة سواء لدى الرئيس أو الوزارة أو السلطة التنفيذية كلها أن تضع وتنفذ الخطوات التى تكتمل بها الدولة المصرية، وتقيم فيها النظام الديمقراطى، وتطبق المعايير العالمية لحقوق الإنسان. وفى الحقيقة فإن هذه الخطوات بدأت بالفعل عندما وضع دستور ٢٠١٤ الذى أخذنا خطوات بعيدا عن الاستثناءات التى شيدتها ثورة ٢٣ يوليو، وما تبعها من نظم. وعندما زال فى الدستور وفى التطبيق شرط الـ٥٠٪ عمالا وفلاحين فإننا أزلنا استثناء تاريخيا لم تعرفه أمة أخرى، وندعو الله ألا يعود ذلك مرة أخرى فى قانون المجالس المحلية الذى نريده قانونا طبيعيا يقوم على نفس الأسس التى تقوم عليها القوانين المماثلة فى دول العالم الأخرى التى حباها الله بنعمة التقدم.
المساحة هنا لا تتحمل الكثير من التفاصيل، ولكن لا توجد دولة «طبيعية» فى العالم إلا وكان لديها سعر واحد للعملة، لأن الدولة تفقد حالتها الطبيعية ساعة أن تقرر بقرار من وزارة الصحة أنه يمكن قياس درجات حرارة المرضى بعدة مقاييس للحرارة، أو تطلب من المواطنين حسب الموقف أو المزاج أن يطبقوا عدة أنواع من الموازين (الكيلو أو الرطل) أو قياس المسافات (بالمتر أو بالياردة). لو حدث ذلك فإن الدولة تفقد الكثير من مقوماتها، وتصبح بالفعل «شبه دولة»، ويكون الحال كذلك عندما تتعدد أسعار العملات، وبالتأكيد عندما تضع الحكومة هدفها فى أن تقلل العجز فى الموازنة العامة بينما سياساتها المالية تؤدى إلى زيادة هذا العجز. اتساق السياسات المالية مع تلك النقدية هى التى تقربنا من الدولة الطبيعية وتبعدنا عن تلك ذات الطبيعة «الخاصة» أو الاستثنائية، وفى كل الأحوال تبعدنا عن حالة «شبه الدولة» وتقربنا إلى حالة الدولة متكاملة الأوصاف.
فى الوقت الراهن فإن هناك الكثير من الجهد المبذول فى مشروعات قومية كبيرة خاصة فى البنية الأساسية وفتح طرق للتنمية بعيدا عن النهر، وهى خطوات محمودة، ولكنها فى النهاية لا يظهر لها تأثير محسوس فى المؤشرات الرئيسية للدولة، فهى لا ترفع معدل النمو، ولا تزيد من الناتج المحلى الإجمالى، ولا تقلل من البطالة، أو تقلل من التضخم، والمدهش أن العالم لا يلحظها. السبب أن كل ما يجرى يتم من خلال الدولة بينما فى الدولة الطبيعية يتم ذلك من خلال المجتمع والسوق والرأسمالية، بينما تقوم السلطة الوطنية بالتنظيم والتسهيل والتشجيع معا. استكمال الحال هكذا بمصالحة مع القطاع الخاص، وأخرى مع الإعلام، ربما يجعل خطواتنا نحو الدولة الكاملة والطبيعية أسرع مما نتخيل.