هذا المقال وجدته بين ملفاتى الإلكترونية، ولا أدرى متى كتبته، ولا أذكر عما إذا كنت قد نشرته أم لم أنشره، لم يكن له تاريخ، ولكن المؤكد أنه كتب قبل زمن الثورات، ولم يكن دستور ٢٠١٢ ولا المعدل منه فى ٢٠١٤ قد صدر بعد، وفى بلادنا فإن ما سبق كثيرا يشبه ما لحق. ولا بأس فإن الأحداث اليومية تجبرك أحيانا على أن تنفض التراب عن أوراقك وكتبك القديمة، ومن بين الملفات الكثيرة، وطالما أن وقائع كثيرة يجرى الحديث عنها هذه الأيام، فربما يكون من المفيد التذكرة للنفس وللآخرين بما جاء فى أصول القضايا والموضوعات، وكلها وجدتها فى ملف يخص الأستاذ على الشلقانى رجل القانون والمحامى العظيم رحمه الله وطيب ذكره.
وأول ما وجدت بين الأوراق كان موقف الوثائق العالمية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، وبتاريخ 10 ديسمبر 1948 أصدرت الجمعية العامة لحقوق الانسان (وكانت مصر من بين المصوتين عليها)، ونصت المادة 19 منه «لكل شخص حق التمتع بحرية الرأى والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته فى اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود». كذلك أقرت الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية فى 16 ديسمبر 1966، ووقعت عليها مصر فى 4 أغسطس 1967 ثم انضمت إليها بموجب القرار الجمهورى رقم 536 لسنة 1981 فى أول أكتوبر 1981، وتم التصديق عليها من مجلس الشعب ونشرت فى الجريدة الرسمية وبذلك أصبحت قانونا من قوانين الدولة.
وتقول الأوراق القديمة إنه من الثابت أن نصوص الاتفاقية تقول إنه لا يجوز التمييز بين الأفراد لأسباب كثيرة من بينها «الرأى السياسى» (مادة 2)، كما أن لكل فرد الحق فى حرية الفكر والضمير والديانة و«لايجوز إخضاع أحد لإكراه من شأنه أن يعطل هذه الحرية (مادة 18). وتمضى الاتفاقية قائلة إنه لكل فرد الحق فى اتخاذ الآراء دون تدخل، كما أنه له الحق فى حرية التعبير، وهذا الحق يشمل حرية البحث عن المعلومات أو الأفكار من أى نوع واستلامها ونقلها بغض النظر عن الحدود، وذلك إما شفاهة أو كتابة أو طباعة (مادة 19). ويصل الأمر فى الاتفاقية إلى أن لكل مواطن الحق والفرصة- دون أى تمييز- فى المشاركة فى سير الحياة العامة (مادة 25). والاتفاقية هكذا- وقد باتت من القانون العام فى مصر- تحرم أى قيد على العمل السياسى أو على اعتناق فكر معين والتعبير عنه بشتى الوسائل، وسواء جاء هذا القيد من السلطات العامة أو من أية سلطة اجتماعية أخرى.
الدستور المصرى واضح أيضا فى هذه المسألة، ومتوافق مع المواثيق الدولية فى هذا الشأن وهو ما جاءت به المادة 47 من أن «حرية الرأى مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول والكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير». والواقع أن المحكمة الدستورية العليا رسخت هذه المسألة من خلال مجموعة من الأحكام القاطعة التى تجعل حرية الرأى هى الحرية الأصل التى يتفرع عنها الكثير من الحقوق والحريات، كحق النقد، وحرية الصحافة والطباعة والنشر وحرية البحث العلمى والإبداع الأدبى والفنى والثقافى، وحق الاجتماع والتشاور وتبادل الآراء، وحق مخاطبة السلطات العامة. (الدعوى رقم 44 جلسة 7/5/1988 مجموعة المحكمة الدستورية العليا؛ والدعوة رقم 2 جلسة 4/1/1997، والمنشورة فى الجريدة الرسمية 16/1/1997). وتؤكد المحكمة أنه ليس للسلطة التنفيذية- وبذات المنطق أى سلطة أخرى- أن ترصد الآراء التى تعارضها لتحدد ما يكون منها موضوعيا «إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق فى الحوار العام، وهو حق يتعين أن يكون مكفولا لكل مواطن وعلى قدم المساواة الكاملة.. ذلك أن ما قد يراه إنسان صوابا فى جزئية بذاتها، قد يكون هو الخطأ بعينه للآخرين». ( الدعوى رقم 42 جلسة 20/5/1995، والدعوى رقم 37 جلسة 6/2/1993، مجموعة أحكام المحكمة الدستورية).
وترى المحكمة الدستورية العليا فى أحكامها أن أهداف حرية الرأى لا تتحقق إلا باتصال الآراء وتفاعلها، وليس المقصود بها أن تكون مدخلا إلى توافق عام، فما توخاه الدستور من خلال ضمان حرية التعبير هو أن يكون التماس الآراء والأفكار وتلقيها عن الغير ونقلها إليه، غير مقيد بالحدود الإقليمية على اختلافها ولا منحصرا فى مصادر بذواتها تعد من قنواتها، بل قصد أن تترامى آفاقها، وأن تتعدد مواردها وأدواتها، وأن تنفتح مسالكها، وتفيض منابعها، و«لايتصور أن يتم ذلك إلا من خلال اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض، وقوفا على ما يكون منها زائفا أو صائبا، منطويا على مخاطر واضحة، أو محققا لمصلحة مبتغاة». (الدعوى رقم 6 جلسة 15/4/1995، والدعوى رقم 17 جلسة 14/1/1995، مجموعة أحكام المحكمة).
والحقيقة أن أحكام المحكمة لم تقيد حق الفرد فى التعبير عن آرائه بمدى صحتها، «ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام فى بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التى يمكن أن تنتجها، وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة فى أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام، فلا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء التى تتصل بتكوينه، ولا عائقا دون تدفقها» (الحكمان السابقان من أحكام المحكمة). والخاطر هنا على الأوراق القديمة أنه إذا كان الدستور قد منع على السلطات العامة أن تفرض «وصايتها» على العقل العام فهل يجوز منح هذا الحق لأى سلطة أخرى فى المجتمع؟!. وبالعودة إلى أحكام المحكمة الدستورية العليا نجدها قاطعة فى هذا الشأن وتصل إلى مدى بعيد حين تقرر أنه لا يجوز تقييد حرية الرأى بقيود مسبقة أو بفرض عقوبات لاحقة، فمن المقرر أن حرية التعبير والآراء التى تتولد عنها، لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التى تتوخى قمعها، بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها- وعلانية- تلك الأفكار التى تجول فى عقولهم، «فلا يتهامسون بها نجيا، بل يطرحونها عزما- ولو عارضتها السلطة العامة-... لتغيير قد يكون مطلوبا». و«لعل أكثر ما يهدد حرية التعبير أن يكون الإيمان بها شكليا أو سلبيا بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولا بتبعاتها، وألا يفرض أحد على غيره صمتا ولو بقوة القانون». ( الحكمان السابقان).
وتمضى أحكام المحكمة الدستورية العليا الموضحة فى الحكمين المشار لهما للتأكيد على أن حرية الرأى هى القاعدة فى كل تنظيم ديمقراطى بحيث لا يقوم إلا بها، بحيث لا يجوز لا للسلطات العامة ولا لأى سلطة أخرى أن تقيده بقرار. وللحق فإن هذه القاعدة لم تكن فقط مستندة إلى ما جاء فى الدستور من مواد، وإنما جرى اختبارها فى قاعة المحكمة الدستورية العليا حينما عرض عليها النص الذى كان يشترط فى مؤسسى الحزب السياسى ألا يكونوا من المعارضين لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، إذ قضت المحكمة بعدم دستورية هذا الشرط، وقالت فى حكمها: «مؤدى النص فى المادة (سابعا) من المادة 4 من القانون رقم 40 لسنة 1977 الخاص بنظام الأحزاب السياسية فيما تضمنه من اشتراط (ألا يكون بين مؤسسى الحزب أو قياداته من تقوم أدلة جدية على قيامه بالدعوة أو المشاركة فى الدعوة أو التحبيذ أو الترويج بأية طريقة من طرق العلانية لمبادئ أو اتجاهات أو أعمال تتعارض مع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل).
نعود للحاضر بعدما رأينا من أن حرية التعبير والاختلاف فى الرأى من طبائع الأشياء فى دولة ديمقراطية، فكيف نضمن ذلك بينما توجد الدولة التى تمارس فيها الحرية؟ تلك هى المسألة؟!.