x

مواطنو بورسعيد يتمسكون بأسماء الشوارع القديمة

الأحد 07-11-2010 16:55 | كتب: نفيسة الصباغ |
تصوير : محمد راشد

لكل مدينة من مدن القناة طابعها الخاص، فبعد الإسماعيلية التى كانت أقرب للقرية منها للمدينة دخلنا بورسعيد، كان الفارق الأبرز بين المحافظتين، الذى يمكن ملاحظته بسهولة، هو الاختلاف فى طبيعة الأشخاص فبمجرد وصول «الميكروباص» إلى بورسعيد، يهرول إلى بابه فى حمية عدد من سائقى سيارات الأجرة، يتسابقون لالتقاط «زبون»، على العكس من ذلك الهدوء والانتظار شديد التأنى من السائقين فى مدخل الإسماعيلية.

الظاهرة اللافتة الثانية كانت الأطفال فى الإشارات، الذين يتوافدون على المدينة من المحافظات الفقيرة يحاولون الحصول على أى شىء من أى شخص، هذا بخلاف العمال المتواجدين على أرصفة المدينة «سوق الرجالة»، وعلى وجوههم ملامح الحزن والفقر يعيدون عهد عمال التراحيل مرة أخرى للواجهة، وهو ما لم يكن واضحا فى الإسماعيلية.

فى المدينة التى اكتسبت اسمها من الخديو سعيد، ووصفها كتاب أوروبيون بالمدينة الكوزموبوليتان لا يوجد الكثير من المزارات السياحية المستعدة لاستقبال الزوار، رغم وجود كثير من المناطق التى يمكن ترويج السياحة فيها من متاحف وآثار من بينها «آخر طوابى عرابى بقرية الديبة ومسار العائلة المقدسة بمنطقة بالوظة وجزيرة تنيس ببحيرة المنزلة ومحمية أشتوم الجميل التى تضم أنواعاً من الطيور المهاجرة والنباتات النادرة»، كما أن الشاطئ ليس بالجودة الكافية لقربه من الميناء من ناحية، وما ترميه السفن من مخلفات وزيوت فى غيبة رقابة أجهزة البيئة، ولكثرة القناديل التى يمكن ملاحظة من يعانون من لسعاتها بمجرد المرور قرب أحد الشواطئ من ناحية أخرى.

المدينة التى نشأت من لا شىء، ولم يكن لها وجود قبل ضربة أول معول لحفر قناة السويس فى 25 أبريل عام 1859، وامتدت على حساب البحيرة -ولاتزال- من خلال رمى ناتج الحفر فى المياه وردم أجزاء منها لإقامة مكان صالح للبقاء فوقه- قبل ذلك لم تكن أكثر من شريط ضيق بين البحر والبحيرة عرضه من ٤٠-٦٠ متراً، وجاء إليها الناس من جميع محافظات مصر وكل أنحاء العالم، ونشأت المدينة مكونة من جزء خاص بالأجانب هو حى «الأفرنج»، وخيام للعمال العرب أصبحت «حى العرب»، ثم المنطقة الثالثة التى كانت «تناخ» فيها الجمال القادمة من منطقة الصالحية محملة بمياه الشرب (قبل حفر ترعة الإسماعيلية)، لتعرف بعد ذلك بحى «المناخ». اندماج وانصهار مختلف ثقافات مصر وأوروبا شكل وجدان البورسعيدى، وفهلوة «أبو العربى»، ورغم ذلك لم يمل الناس سؤال بعضهم البعض «إنت منين»، بحثاً عن الأصل الأول لجذور العائلة، وهو ما يبدو مستمرا فى الجمعيات المختلفة كالجمعية النوبية، وغيرها من الجمعيات القبلية التى تحافظ على الجذور وتعمل كحلقة وصل بين العائلات فى المحافظات الأخرى وأبنائها فى بورسعيد.

من جانبها، تعتبر نجلاء إدوار، عضو المجلس القومى للمرأة ورئيسة جمعية سيدات الأعمال ببورسعيد، أن «بورسعيد جميلة.. مميزة بأهلها»، وكل ما ينقص المدينة هو «لمسة سياحية فى البلد، محتاجين نحط البلد على الخريطة السياحية»، فهناك الكثير من الأماكن التى يمكن العناية بها وتسويقها لتكون مزارات سياحية، مثل كنيسة سانت أوجينى (قديسة مصرية وليست أوجينى الفرنسية)، والتى لا تزال نقوشها كما هى، ورونق الألوان لم يضِعْ منها حتى اليوم وبها أكبر آلة أورغن فى العالم. وفى المدينة هناك الكثير من الأديرة والكنائس وجزيرة تنيس وبقايا آخر طابية لعرابى، ومحمية «أشتوم الجميل».

ومن الملامح الخاصة بالمدينة التى قد تشجع على السياحة جمال المعمار الذى يحتاج لمزيد من الانتباه، والذى قال المعمارى الكبير جمال بكرى ابن المدينة إنه عشق الهندسة والبناء من مشاهدته لبنايات الأجانب ذات البواكى المميزة و«التراسينه»، وبعضها بنى من الخشب بدلاً من أعمدة الخرسانة فكم من البنايات هدمت وأقيم مكانها «توابيت خرسانية»- وفقا لتعبير نجلاء. ومن أبرز المبانى الموجودة الفنار القديم الذى هو أول بناء خرسانى فى العالم، ومن اهتم بذلك المعمار الفريد أكثر من غيرهم الفرنسيون الذين قاموا بتصوير وأرشفة المبانى، وهم من اكتشفوا أن الفنار هو أول مبنى خراسانى فى العالم، وهو الآن معرض للاندثار بعد أن ألغى دوره لتتاح الفرصة لأغنياء المدينة الجدد لمزيد من الارتفاع لعماراتهم المحيطة بالفنار فى حصار خانق.

ومن وجهة نظر نجلاء، فلا تزال بورسعيد رغم كل شىء مدينة «تعيش على تراثها»، حتى الشوارع فى المدينة لا تزال ترفض تغيير أسمائها حتى اليوم، فالجميع يتمسكون بالأسماء القديمة للشوارع، فشارع أوجينى، تغير اسمه رسمياً إلى «صفية زغلول» لكنه ظل «أوجينى» على لسان الناس وفى أذهانهم، وشارع «الثلاثينى» أصبح رسميا «سعد زغلول»، و«الحميدى»، الذى أطلق عليه هذا الاسم تيمنا بالسلطان عبدالحميد أصبح رسميا «أحمد ماهر»، وشارع «طرح البحر» أطلق عليه اسم «عاطف السادات»، والكثير غيرها من الشوارع التى أعيدت تسميتها، وظل الجميع يعرفونها بالأسماء القديمة.

فى الصباح الباكر يستيقظ الموظفون سواء العاملين بالمصالح الحكومية أو القطاع الخاص، بينما تغير نسق حياة التجار وأصحاب الأعمال الحرة الذين يبدأ كثير منهم يومهم قرب الظهيرة، والمحال التى كانت لا تكاد تغلق أبوابها لا تفتح قبل الحادية عشرة حاليا، إلا المحال التى يمتلكها «ناس زمان» الذين لا يزالون يتمسكون بروتين يومهم السابق الذى اعتادوه من معاشرة الأجانب ويحرصون على فتح محالهم من الثامنة صباحاً، ويحصلون على إجازة يومى الجمعة والأحد.

بكر عزام، يزور مدينته بعد غياب ١٧ عاما يحكى كيف يرى التغير فى المدينة «البلد باظت.. وأنا نازل البلد حسيت إن الشوارع اللى كنت عارفها وفاكرها واسعة انتهت.. الأرصفة اتلغت.. حتى قيادة السيارات لا يمكن تصورها هنا، الناس فى البلد حاليا و(بيحاربوا بعض)، لم يعد هناك شخص يرغب فى الصبر على الآخر ولو جزءاً من الثانية»، ويؤكد بكر: «أنا من البلد أباً عن جد، كل إخوتى وأهلى هنا.. وأنا كبرت هنا».. كان الفقر موجوداً والمشاكل والوجع، لكن الأخلاقيات الراقية والمتحضرة كانت تهوّن كل شىء، أما الآن فلا.. أنا بقالى ٣٢ سنة خارج مصر منهما ١٧ سنة متصلة لم أر فيها المدينة، وأخيرا حضرت لرؤية أمى المريضة. كنت على وشك العودة والاستقرار هنا منذ عدة سنوات وبدأت فى تجهيز الحقائب والبحث عن مشترين لممتلكاتى فى الإمارات، واحتجت لتوثيق ورقة وطلبت من أحد أقاربى توثيقها لى فطلب منى (موبايل) للموظف الذى سيقوم بتوثيق الورقة. لم يكن مثل هذا الموقف ممكنا قبل ذلك، العلاقات بين الناس لم تكن فى يوم من الأيام على هذا الشكل، لم أتمكن من العودة، شعرت بأن كل ما تركته خلفى انتهى».

الاختلاف كان قوياً فى ذهن بكر، ويروى كيف أنه كان فى السادسة من عمره خلال التهجير، وبقيت أسرته ٣ أشهر خارج المدينة، ثم عادت لتجد السطح مليئاً بالدجاجات، تكتشف أن الجيران اعتنوا بالكتاكيت التى تركتها الأسرة قبل رحيلها. ولأنه عاش مثل تلك الحالة من الود والحب بين الجميع لم يكن من السهل عليه تقبل أن يقدم له شخص خدمة مقابل أجر مهما كان بسيطاً.

الحاجة زينب الكفراوى، سيدة المقاومة القديمة وإحدى بطلات مقاومة العدوان الثلاثى عام 1956، ترى أبرز الاختلافات فى الزحام الذى ليس مشكلة فى حد ذاته، لكن المشكلة فى عدم النظام وانعدام الذوق وعدم احترام الآخر، هذا بخلاف «العيال الصغيرة» الذين يقودون السيارات. وأكدت «أستاذ بكر له حق يتخض، أنا سافرت فى ١٩٧١ إلى الجزائر وبقيت هناك حتى ١٩٨٧، وعدت لأجد الحياة كلها تغيرت»، بعكس سفرتها الأولى عام ١٩٦٤ حين عادت لتجد أهالى البلدة، وقد فرشوا الأرض لها بالرمل لتسير عليه. وحول ما كان قديما وانتهى تقول أستاذة زينب «كنا كلنا بنحب بعض، وفى ٥٦ مثلا كنا يد واحدة، كلنا كنا نعرف بعضنا البعض ونتعاون فى كل شىء، ولا نهتم كثيرا سوى بالقيم وكرامتنا وما نشأنا عليه».

وترى ابنة رجل الشرطة أن هناك اختلافاً آخر بين الماضى والوضع الراهن، وهو شكل العلاقة بين المواطنين والشرطة، فقديما كان الجميع يأتون لأبيها لحل مشاكلهم وخلافاتهم ويرضون بما يحكم به، وكانت كثير من المشكلات لا تصل إلى إجراء رسمى، وفى بعض الأحيان كان بعض المقبوض عليهم فى شجار -على سبيل المثال- أو غيره من الأحداث الطارئة والبسيطة.. يطلبون إمهالهم ليتمكنوا من توصيل طلبات بيوتهم للزوجة والأبناء، فيخرجوا من الحجز لقضاء المهمة التى يريدونها ثم يعودوا فورا للحجز حتى تنتهى الإجراءات. تلك الثقة المتبادلة والاحترام كان هو أساس العلاقة بين الشرطة والمواطنين، وهو الوضع الذى لم يعد موجودا.

السبب لا يقع على كاهل الشرطة وحدها -وفقا لزينب- فمن الصعب «إلقاء اللوم على البوليس بس»، فأفراد الشرطة جزء من المجتمع، تأثروا بما حدث من تغيرات، واختفت أخلاقياتهم كما اختلفت أخلاقيات المصريين كلهم. المشكلة الأساسية هى أن «روابطنا الاجتماعية انفكت، الجار والجار كانوا إيد واحدة، كان جارنا ناس مسيحيين، فى العيد الكبير الخواجة رزق كان بيرق لنا الرقاق بتاع العيد ماعمرناش قلنا ده مسيحى وده مسلم ولا ده هاينطرد وده هايخش الجنة» وتضيف: «فى العيد الأطباق تلف على الكل»، من هذا البيت لذاك ليتذوق الجميع ما أعده الجيران والأهل. وكانت أى فتاة تخاف من الجار تماما كما تخاف أخاها وأباها. ما اختلف اليوم هو التربية وهو ما خلف أغلب الاختلافات الأخرى، فالأجيال القديمة كانت أسراً متوسطة تجاهد كى تكون أفضل، والآن كثيرون كبروا ليجدوا حياتهم أكثر سهولة فلم يشعروا بالجهد من أجل كسب المال.

وتتذكر أن أحد الموضوعات التى كانت تدرسها فى الجزائر كان يؤكد أن «المدينة العظمى بأمهات حازمات قويات»، وتعتبر أن ذلك هو لب الاختلاف، فالأم وضعت همها فى أشياء أخرى بخلاف تربية أبنائها، وركزت على قشور دون الجوهر، وتتذكر بقوة موقفا لا يغيب عنها، كانت فى المطار وسمعت مسؤولا بالجمارك يسأل فلاحة بسيطة ترتدى «التوب» التقليدى والطرحة عما تحمله معها من أشياء تستحق دفع جمارك عليها، فكان ردها «معايا كرامتى لو وقعت فى الأرض مين هايجيبهالى؟»، تلك المرأة نموذج للأمهات اللاتى تريد زينب أن تراهن طوال الوقت حتى ينصلح الحال، بدلا من أمهات ونساء اليوم اللاتى يقضى بعضهن اليوم ما بين النادى والتسوق ويتحدثن ويتأنقن فى اللبس لكن خاويات من الداخل. وتؤكد أن الجيل الحالى «مظلوم» فالشباب «زى المتعلقين فى الهوا، أمه وأبوه كلموه عن أحلام كبيرة وكبروا لقوا الدنيا شكل تانى، الشباب مظلوم من أهله ومن تربيته». ووفقا للسيدة التى عملت بالتدريس معظم حياتها، كى يعود ذلك الزمن الجميل لابد من وجود «أمهات حازمات قويات» يقمن بتربية أجيال جديدة، ولابد قبل كل شىء من إصلاح التعليم الابتدائى الذى هو أساس فى تربية الجميع، كما ينبغى أن تنصلح الروابط الاجتماعية التى تكاد تنتهى.

ومن التغيرات التى تركت أثراً كبيراً المنطقة الحرة، سواء بداية إنشائها أو اقتراب نهايتها. فمع البدايات كان أهل المدينة يبقون فى بيوتهم خلال الإجازات فى منازلهم لكثرة الزحام والرحلات ومئات الزوار من مختلف مناطق مصر، ذلك الزحام الذى كان يتصاعد خلال المواسم، وفقا لنجلاء إدوارد، سواء بدايات رمضان أو الصيف أو المدارس والعيد وغيرها. ومع اقتراب نهاية المنطقة الحرة كثير من الناس فقدوا عملهم، وتوجهوا لأعمال أخرى -على الأقل من نجح منهم فى العثور على عمل- لكن أياً كانت تلك الأعمال الجديدة فمكسبها أقل كثيرا من المكاسب التى كانت تأتى من التجارة أيام المنطقة الحرة. وتضيف نجلاء «من فقدوا عملهم تعبانين قوى وبيحاولوا يعيشوا بشكل آخر، وبيبكوا على العيشة اللى كنا فيها، ما كانوش حاسين بالوضع إلا لما انتهى».

من جانبها، تعتبر أستاذة زينب أن المنطقة الحرة أسهمت فى تسريع التغيير، فقبلها لم يكن هناك الكثير من الأموال، وكان الجميع أسرة واحدة تعرف كل أفرادها، بينما بعد إنشاء المنطقة كانت فكرة الثراء تشغل كثيرين، وسهولة جمع الأموال أثرت على الناس، كما أقبل على المدينة كثيرون من خارجها، بثقافاتهم وخلفياتهم، ولم تعد كما كانت أسرة واحدة كل فرد منها يعرف الجميع ويعرفه الجميع.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية