«أنا مصدومة في الناس إلى بتهاجم النقابة، وبتدافع عن الداخلية مش قادرة استوعبهم». أرسلت لي زميلة عزيزة هذه الكلمات، بعد يومين على اقتحام وزارة الداخلية لمقر نقابة الصحفيين.
وبعيدًا عن أي اختلاف حول نسبة التيار الشعبي المؤيد لما فعلته قوات الداخلية، ومدى تأثير هذا التيار، ومدة تأثره باللجان إلكترونية؛ فمن الأمانة أن نعترف أن الأمر يمثل ظاهرة تستحق أن نتوقف عندها كثيرًا.
لأن أسوأ ما يمكن أن نفعله الآن مع هذا الأمر هو أن نتجاهله تمامًا، أو حتى نقلل من وزنه مهما كانت ضآلته، وهو ليس كذلك، للأسف.
*****
همّ الصحفيين على راسهم ريشة؟
هو الواحد يحرم من بيته بقى، ولا ممكن من عند الحرم الصحفي مباشرة؟
هذه أمثلة من الأسئلة والكوميكس التي انتشرت على الإنترنت اليومين الماضيين.
تعرف الأنظمة الديمقراطية سلطات ثلاث.
الأولى: سلطة تنفيذية، ويقوم عليها الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء والمحافظين والمسؤولين الحكوميين.
ثانيًا: سلطة تشريعية، ويقوم عليها نواب البرلمان، وتختص بسن القوانين ومراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية.
ثالثا: السلطة القضائية، وهي معنية بالفصل في النزاعات، ومراجعة وتفسير القوانين والتشريعات، وتعمل أيضا كحكمًا بين السلطات.
ثم ظهر لاحقا ما يعرف بالسلطة الرابعة الاعتبارية، وهي سلطة الصحافة، أو سلطة صاحبة الجلالة كما يحب البعض أن يناديها به، والحقيقة أنها سلطة شعبية بالأساس تم تكليف جماعة من الناس «المتخصصين» بممارستها، بمعنى أن الناس وكلوا الصحفيين نيابة عنهم ليقوموا بدور المراقب والناقل للمعلومة والباحث عن الحقيقة.
لذا أصبح منطقيا أن يمنح الصحفيين حصانة مقيدة بضوابط، وليست شخصية في حدود تأمين وحماية دورهم في الحصول على المعلومة ونقلها، وكشف الفساد، والزود عن الحقوق والحريات.
وعندما يكون هناك اعتداء على هذا الوكيل الشعبي -الصحفي- يكون في نفس ذات الوقت هو اعتداء مباشر على الموكل، وهو الشعب؛ لذا أي اعتداء على الصحافة هو اعتداء صريح ومباشر على حق الناس في أن تعرف.
ولكن للأسف هذه الحقيقة غائبة عن الكثير من الناس، ولا يمكن أن نلقى باللائمة على الناس أنفسهم في ذلك، خاصة أن أحد أدوار الصحافة هو التوعية!
*****
ثلاث محطات رئيسية في واقعة اقتحام قوات الداخلية مبنى نقابة الصحفيين، والقبض على زميلين معتصمين في النقابة والاعتداء على أمن النقابة.
المحطة الأولى: ما قبل الواقعة، تراكمات ورواسب.
وهنا مقياس العمق يتحمل أن ننقب في خمس سنوات أو من عامين أو حتى قبل شهر، والمؤكد في كل هذه التراكمات أن العلاقة متوترة ويزداد توترها يومًا بعد يوم، في ظل تكرار الممارسات غير القانونية للكثير من أفراد الشرطة، والعداء الواضح للصحفيين باعتبارهم «ناس حشرية» يريدون كشف ما لا يجب كشفه.
وهذا يعود لمنهج حبيب العادلي في إدارة وزارة الداخلية، وهو مازال يطبق حتى الآن في العقول التي تدير الوزارة، وهو منطق مواجهة الأخطاء والفشل بالتعتيم عليها، ومعالجة الثغرات التي كشفتها وليست التي أدت إليها.
(وكلنا يتذكر وقائع تصوير جرائم أقسام الشرطة بالهواتف المحمولة في 2009، فكان قرار العادلي وقتها، منع الهواتف من دخول أقسام الشرطة من الأساس، عملا بقاعدة، الباب اللي يجيلك منه الريح!)
وهكذا ظلت العلاقة متوترة في أغلب الأوقات، لكن الأسابيع القليلة الماضية بلغت الأوضاع في فجرها حدا غير مسبوق من الداخلية، عندما زادت عمليات القبض على الصحفيين بل تفتيش بيوتهم وحجزهم دون تهم، أو بتوجيه اتهامات كاذبة ملفقة، كل هذا بصورة مخالفة للقانون الذي ينص على وجوب خطار النقابة قبل التحقيق مع أي صحفي.
*****
المحطة الثانية: رب ضارة نافعة.
ثم جاءت الطامة، وقامت الداخلية بصورة مجانية وبغباء منقطع النظير باقتحام نقابة الصحفيين.
ولم تجد أغلب- إلا قليلا جدا- الجماعة الصحفية نفسها أمام فجاعة وحماقة هذا الفعل أي خيار إلا أن تتحد، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع توجهات الصحفيين اللذين قبض عليهما.
وهكذا انضم تحت لواء النقابة من كان على يمين السلطة أو يسارها؛ وهذا في حد ذاته مكسب كبير في وقت هام جدا، ولكن حصد إيجابيات هذا الموقف مرهون بما ستسفر عنه الأيام القادمة، أو بالأحرى بعد القادمة.
ما كان مستغرب جدا، هو رد فعل الرئاسة، فحسب ما نقله الزميل ياسر رزق، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأخبار، «فإن الرئاسة أولا لم تكن تعرف، وبمجرد معرفتها بما حدث غضبت».
وبعيدا عن الدلالات الخطيرة لأن «الرئاسة ماتعرفش»، فما الذي أخر رد فعلها على حماقة الداخلية التي أغضبتها؟! والأهم هل مصر في هذا التوقيت في احتياج لأزمة جديدة؟!
ثم كيف/ لماذا يبقى الرئيس على إدارة الداخلية التي يُلقى إليها المشكلة فتحولها لأزمة كبرى؟!
رد فعل الداخلية وطريقتها في معالجة للأمر لا يقل حماقة عن الفعل نفسه، في البداية أنكرت كالعادة، ثم أقرت واستخفت وبررت، ولم تعترف بالخطأ أو تعتذر أبدا، وأخذت في ممارسة هوايتها في التدليس والكذب الفج، وتسرب منها لا إراديا بخطأ «تقني» خطتها الساذجة في التعامل مع الأزمة، وقامت من اللحظة الأولى بحصار نقابة الصحفيين وغلق الشارع الذي يقع فيه مقر النقابة، ومنعت العديد من القوى المجتمعية والسياسية من الوصول للنقابة والتضامن معها.
رد فعل النيابة هو الآخر كان محل نقد كبير، خاصة أنه كان واضحا أنها انحازت لموقف الداخلية من البداية، بل قامت بحبس الصحفيين اللذين اقتيدا من النقابة لها احتياطيًا، رغم أنه لا يوجد أي دليل إلا تحريات مباحث القسم؛ ثم كان قرارها الغريب وغير القابل للتطبيق بحظر النشر، معقول حظر نشر في قضية تخص الصحفيين أنفسهم؟!
*****
المشهد الثالث: ماذا بعد ؟!
هو مشهد لاحق لما بعد الأزمة، ولما بعد قرارات الجمعية العمومية الطارئة للصحفيين، بل إنه لاحق لرد فعل الدولة الرسمي حول هذه الواقعة، وإن كان مؤثر للغاية فيها.
وبغض النظر عن إقالة وزير الداخلية من عدمه، فالأهم ما هو قادم، الأهم قانون الإعلام الموحد الجديد، هذه هي المعركة الأهم، واتحاد الجماعة الصحفية الآن في هذه الأزمة يجب أن يستمر حتى يمر هذا القانون بسلام.
دعونا نفكر بشكل برجماتي لأقصي حد، ونطرح مع مطلب إقالة وزير الداخلية، سؤال آخر ذو صلة وثيقة آنية ومستقبلية:
هل إقالة وزير الداخلية الآن في صالح المفاوضات أو المعارك القادمة حول قانون الإعلام الجديد؟
هذا مجرد سؤال، ابن عم سؤال، وليس أكثر.
*****
وأخيرا، الصحفيون ونقابتهم في لحظة فارقة، وربما جاءت هذه الأزمة كمنحة إلهية لتصحيح الأوضاع الصحفية السيئة، أو لعلها تكون مشهد الختام لنقابة كانت صاحبة تاريخ عريق، ساهمت بالحبر والدم في بناء هذا الوطن.
كل هذا مرهون بقدرة الصحفيين كأفراد أو كمؤسسات أو كنقابة في قيادة هذه الأزمة باحتراف، والبناء عليها للمرحلة القادمة.
مرهون بمراجعة صادقة مع النفس، والأهم مراجعة صادقة مع الناس، مراجعة تسعى لرأب الصدع الكبير الذي حدث في جدار الثقة بين الصحافة وجمهورها الأول والأهم.
مرهون بتفعيل دور النقابة في ضبط المشهد الإعلامي، ووقف نزيف الانفلات المهني، ومواجهة ضعف الأداء الصحفي، وضمور الأدوات المهنية والتقنية، وتجاهل التدريب والتطوير كشريان رئيسي لبقاء الصحفي، صحفي.
مرهون بمعاقبة من يمزج «النشاط» الصحفي بالنشاط السياسي، مهما كانت مساحة الاختلاف أو الاتفاق حوله الغاية ونبلها، ففي النهاية يجب أن يبقى موقف الصحفي السياسي بعيدا عن التأثير في الوقائع والحقائق التي تقدم للناس.
كل هذا وأكثر مرهون بفتح النقابة ذراعيها لكل أبنائها، لشباب الصحفيين الذين يعملون بشكل رسمي ومهني في الوسائط الرقمية، وفقا لضوابط وشروط منطقية، وإلا ستجد النقابة نفسها بعد سنوات قليلة خارج كل الحسابات وخارج دائرة الاهتمام، فإذا كانت هي الماضي والتاريخ، فهؤلاء هم المستقبل.
للتواصل مع الكاتب