عزيزى نيوتن
■ يوماً بعد يوم تدلل التجارب الإنسانية على استحالة رفرفة طيور الحرية وديمومة أنوار الحداثة، ما لم تقض نهائياً على بؤر الظلام وأصنامه. تتبدد مع الأيام أيضاً أوهام التوصل لمنطقة وسطى، ما بين الإنسانية والدوجماطيقية.
■ «أول الغيث قطرة» كما يقولون، فكلمات رئيس البرلمان التركى عن دستور دينى، والتى سارع رجال الحزب الحاكم فى التبرؤ منها، ليست إلا بالونة اختبار، وفقاعة تظهر على السطح، ما يموج به ما تحته من نوايا وبوادر. ما نراه على امتداد النظر هو أن العلمانية تتهاوى فى تركيا، والشعب التركى يتجه ببطء وثبات إلى الارتداد للدولة الدينية والخلافة الإسلامية.. هى فيما نرى مسألة وقت لا أكثر. ما يحدث فى منطقة الشرق الأوسط ليس إلا انتصاراً لإرادة الشعوب، وهذا هو توظيف بعض الشعوب لآليات الديمقراطية لاغتيال الديمقراطية والحرية، بأن ترتد بها إلى أيديولوجيات ونظم شمولية عتيقة وظلامية.
■ النموذج «الأتاتوركى» ظل دوماً فى مخيلتى المضاد لما أعتقد فيه، بأن الشعوب فى جميع الأحوال وفى غير الحالات المؤقتة الاستثنائية، هى التى تقرر لنفسها بنفسها منهج حياتها، وأنها المسؤولة عن كل ما يحدث لها من تقدم أو تخلف، ومن فقر أو غنى. ولم أكن أجنح أحياناً لفكرة «المستبد العادل» البائدة، إلا كسباً لبعض الوقت، لتأخير السقوط المحتوم للشعب الذى أنتمى إليه، على الأقل حتى يحين أجلى!!.. الجنرال مصطفى كمال الملقب «أتاتورك» أخذ الشعب التركى إلى العلمانية بالبطش والاستبداد، مستعيناً بلاشك بقطاع معتبر من الأتراك برىء مما ابتلى به عموم الشعب. ولم تصمد العلمانية كل هذه المدة إلا بالتدخل الدائم للعسكريين، الذين ظلوا طوال الوقت حراساً للدستور والعلمانية. الآن وفى ظل الديمقراطية يتغير الدستور على هوى الخليفة أردوغان، ليعود الأتراك تدريجياً إلى حيث كانوا، رعايا فى دولة خلافة إسلامية. وإن كنا لا نظن أن هذا سيحدث وتخرج منه تركيا موحدة بالصورة التى نعرفها بها الآن.
■ بالتأكيد ستختلف الآراء والتوقعات حول مصير العلمانية فى تركيا، وإن كان كل من الظروف الإقليمية والعالمية المحيطة بتركيا والشعب التركى بقطاعاته العلمانية العريضة، سوف يسمحون لأى من كان بالارتداد بتركيا إلى العصر العثمانى أو ما هو أبعد فى التاريخ. لكن السؤال المحورى الذى يفرض نفسه هو: بعد تسعة عقود من تطبيق العلمانية فى تركيا، هل هى الآن فى طور المزيد من التعمق والتغلغل فى كل من مؤسسات الدولة وثقافة القواعد الشعبية، أم أن المنحنى العلمانى يأخذ منحى الهبوط، ما يجعل من حق بعض «المتشائمين» توقع وصوله إلى خط الصفر أو ما هو دون ذلك؟
■ هناك إشكالية فشل حتى الآن التنظير والتطبيق الديمقراطى فى حلها. وهى التفرقة بين الإجماع الذى يستحق وصفه بالإجماع الديمقراطى، وذلك الذى نضطر لوصفه بالغوغائى. نعم لدينا تعريفات مستقرة لكل من الديمقراطية والغوغائية، لكن المعضلة تكون عند التطبيق: من الذى يحق له التفرقة بين هذه وتلك، وكيف نتمكن وفق آليات ونظام سياسى صارم وعادل ورصين، من السماح بمرور الديمقراطى وتوقيف الغوغائى؟
■ لو حدث بالفعل ارتداد عن العلمانية فى تركيا، فهذا يعنى أن أى أمل فى حداثة لشعوب العالم العربى هو محض هلاوس وأوهام سخيفة.
كمال غبريال