كل شعوب العالم قاومت المحتل القادم للغزو، إلا الشعب المصرى وحده لم يقبل أن تمر عملياته فى المقاومة دون أن يتوافر فيها عنصرا الابتكار والإبداع فى التنفيذ.
فى كل شارع وكل حارة من الإسكندرية إلى أسوان، تجلت عبقرية المقاوم المصرى، رجالاً ونساء، فى إبداع غير مسبوق يعبر عن حالة «إبداء رأى» بالرفض، منفذة ما تفتقت عنه الأذهان من أفكار، وما أتيح للمقاومين من أدوات بدءًا من «الشوم» وحتى «يد الهون»!
بعد أيام نحتفل بأعياد الربيع وشم النسيم، وهى الأعياد التى تلاقت فيها المناسبة الدينية بالموروث الشعبى بإبداع المقاومة. فليلة شم النسيم يختلف الوضع فى مدن القناة وتحديداً فى بورسعيد.
فى هذه الليلة يحيى «البورسعيدية» ذكرى واحدة من أمجاد المقاومة التى لا تموت أو تسقط بالتقادم. فى هذه الليلة يسهر الناس حتى الصباح على ما تبقى من تراث أغانى السمسمية منتظرين حرق دمية «اللنبى».. التى تمثل واحدة من أروع إبداعات المقاومة..
قبل عام 1869 لم تكن لمنطقة القنال «القناة» ملامح محددة، فما إن التقت مياه البحرين الأحمر والمتوسط فى هذا التاريخ، حتى تدفقت الدماء فى عروق المنطقة الوليدة التى كانت قبل هذا التوقيت بسنوات قليلة محطاً للبدو أو الهاربين من يد العدالة.
بدأت فى هذا التاريخ تظهر ملامح المدن الثلاث بورسعيد، الإسماعيلية، السويس. ودبت الحركة فى أرجائها. وساعد فى نموها سريعاً متطلبات المستعمر، الذى كان يسعى لتكوين قاعدة خدمية متكاملة تخدم سفنه العابرة للقناة وجنوده وقواعده الموجودة على ضفة القناة.
ورغم حداثة هذه المدن إلا أنها استطاعت أن تشكل شخصياتها سريعاً، فأغلب سكانها كانوا من أبناء الصعيد الذين جاءت بهم سلطات الاحتلال لإتمام عمليات حفر القناة، والذين تفوقوا بعد الحفر فى عمليات الشحن والتفريغ للسفن العابرة للقناة. وأصبح أبناء الصعيد علامة رئيسية للشكل السكانى للمنطقة.
كانت بورسعيد هى الأوفر حظاً من حيث النمو العمرانى والحضارى، وساهم اختلاط الحضارات والثقافات مع دول حوض البحر المتوسط فى تكوين شخصيتها الحضارية التى تطورت سريعاً جامعة بين ثقافة الغرب وتقاليد الشرق على اعتبار أن غالبية السكان كانوا من أصول تمتد إلى صعيد مصر أو بقايا البدو القادمين من الجزيرة العربية.
ويرى البعض أن فكرة المقاطعة للبضائع الأجنبية تصاعدت بشكل كبير فى منطقة القناة عقب إلغاء مصر لمعاهدة 1936 فى 18 أكتوبر عام 1951.
ولكن الفكرة كانت امتداداً طبيعياً للحركة الوطنية الحديثة التى انطلقت مع شرارة ثورة 1919. وكان طبيعياً أن يكون ميدان المعركة الحقيقى مع الاحتلال الإنجليزى فى منطقة القناة حيث القواعد والمصالح الأجنبية وطريق التجارة العالمى إلى الشرق والغرب.
قصة دمية «اللنبى» بدأت فى أوائل العشرينيات من القرن الماضى، عندما عمد الحاكم العسكرى البريطانى اللورد اللنبى إلى استخدام القوة لكبت جذوة الشرارة الوطنية، واتسع نطاق الإجراءات التعسفية فى ظل الأحكام العرفية حتى بلغ الأمر به أنه كان يحكم بالإعدام على كل من يمزق أوراق الأوامر العسكرية التى كانت تلصق على الجدران..
وتناول طلبة المدارس الأهلية الألحان التى وردت فى إحدى مسرحيات الريحانى «كشكش بك»، وغيروا ألفاظها محتفظين بلحنها وأذاعوها فى طول البلاد وعرضها وهذا مطلعها:
يا لورد اللنبى كان جرى.. لك إيه يا هل ترى
دقنك شابت فى الاستبداد.. وأمور الهنكرة..!
وصلت كلمات هذه الأغنية إلى اللورد اللنبى، فاستشاط غيظاً. وأصدر أوامره بالقبض على كل من ينشد هذه الأغنية، أو يحمل ورقة كتبت فيها، ولكن كل هذا لم يمنع تلك الأغنية، بل ظلت تتردد على الألسنة حتى نقل اللورد من منصبه..
وبمجرد رحيل اللورد اللنبى، عمد المصريون إلى إهانته، فقام البسطاء من أبناء منطقة القناة وتحديداً مدينة بورسعيد التى كانت مقراً للعديد من المصالح الأجنبية الحيوية بصنع «دمية» من الأقمشة البالية وألبسوها البدلة العسكرية، كالبدلة الشهيرة التى كان يرتديها اللورد اللنبى، وساروا بها فى أنحاء المدينة مرددين أغنية عفوية وليدة اللحظة تقول كلماتها:
يا ألنبى يا أبن النبوحا..
ياللى أمك وحشة وشردوحة..
وبعد هذه الأغنية قام البورسعيديون بحرق دمية «اللنبى» لتظل عادة سنوية تتناقلها الأجيال.. تجسيدا للمقاومة حتى يومنا هذا..
www.facebook.com/sherifarefpress