(1)
وصلتني تحذيرات متعددة المصادر، تنبهني إلى خطورة الموضوعات واللغة التي أكتب بها، الشق الودي من التحذيرات وصل (كالعادة) في شكل نصائح طيبة وهادئة، والشق المعادي توزع على طريقتين: الأولى هي الهجوم والتشويش بمقالات ومقولات وتعليقات مضادة، لم تستهدف الرد المباشر على مضامين المقالات، لكنها تعمدت خلق حالة من الخلط والتشكيك والتشويش، والطريقة الثانية تمثلت في رسائل التهديد الصريحة التي صل معظمها (كالعادة أيضاً) بأسماء مستعارة، لكنها كانت حريصة على كشف توجهها، وهذا أمر معتاد ومفهوم في مرحلة متقلبة مشحونة بالفئوية، والصراع الخشن بين الاتجاهات المتشظية بلا حدود في مجتمع التنافر المهول، لكن غير المعتاد وغير المفهوم وغير المقبول، أن تغيب ردود الأفعال الفكرية والسياسية من جهة، وكذلك تغيب الردود والإيضاحات الرسمية من جهة أخرى على ما نكتب، كأننا نكتب عن اللاشئ، إلى اللا أحد.
(2)
مناخ التربص والتحذيرات لا يخيفني، فأنا ممن يتألقون في الأجواء الديناميكية، ويعشقون الحراك والمغامرة والخطر، لكن هذه السمات يجب أن تظل على المستوى الفردي (فأنا حر في حياتي ومزاجي ومذاهبي وما أعشق)، لكن على المستوى العام يجب أن يتسلح الشخص المسؤول بسيكولوجية طيار مثالي، تدرب على التفرقة بين سلوكه الشخصي، وبين سلوكه العملي لحماية حياة البشر الذين يتحمل مسؤوليتهم، ليس كواصٍ عليهم، لكن بحكم عمله ووظيفته لا أكثر، وهذا يعني أنه إذا لم يكن في حالة تسمح له بالحفاظ على حياة الركاب، فمن الأفضل ألا يطير بهم.
(3)
لدي كلام كثير، وتوضيحات مهمة لقضايا مفتوحة، وأسئلة تبحث عن إجابة، لكنني جلست لساعات أمام جهاز الكومبيوتر، أكتب وأمحو، لأن ما لدي من كلام لن يمر، في مثل هذه الظروف المرتبكة التي تحرق أعصابنا، وكنت بين خيارين: أن أكتب، فأخسر منبري، واصطدم مع الجميع، وأرتكب حماقة «الانتحار القومي» التي يحذرنا منها الكبار الآن (على طريقة حق يراد به ردع)، والخيار الثاني: أن أرقص بكلماتي على السلم، أو أشدو بأغنيتي في الحمام، وهذا مالا يروق لي أن أفعله، والبيت يحترق.
(4)
* سألت صديقاً ممن أبلغوني مشكورين بنصائح التهدئة: ماذا تفعل إذا كنت تقف في شرفتك ورأيت حريقاً يكاد أن يندلع في المبنى الذي أمامك؟
- يكفي أن تهرع إلى التليفون وتبلغ المطافئ
* وإذا كان تليفونك معطلاً، هل ترفع السماعة وتتظاهر أنك تهاتف المطافئ؟
- لا طبعاً، سأبحث عن تليفون آخر يصلح لتوصيل البلاغ.
* شكراً على النصيحة... سأفعل.
(5)
هذا يعني أن توقفي عن الكتابة السياسية في مكان ما، أو في وقت ما، لا يعني توقفي عن الدور الوطني والثقافي والاجتماعي، ولا عن تبادل الرأي والمعرفة في كل القضايا التي تمس حياتنا، لكنه توقف منطقي عن الحديث في تليفون معطل لحين إصلاحه، أما الحديث نفسه فسوف ينتقل عبر وسائل ومنابر أخرى. لا أعرف إن كان كلامي واضحاً أم لا؟، لكن برغم هذه الأعذار الواهية، والحجج الغامضة، استأذنكم في «هدنة سياسية» تبتعد فيها هذه المقالات عن القضايا الساخنة، خاصة وأن لدينا الكثير من الكلام المفيد عن الشعر والسينما والحكايات الشيقة، التي يسعدني أن نتخفف بها من هذا القلق الأسود الذي تحول إلى شبح كابوسي يطاردنا في النوم والصحو.
(6)
أيها الأعزاء.. لا تنسوا، أن هذه الهدنة المفتوحة (لأجل غير معلوم) تشمل المقالات المشتركة، التي تواعدنا أن أنشرها لكم.. الموضوعات كثيرة، ووسائل التعبير متعددة ومتنوعة، فلا تتقيدوا بالسياسة، مرحبا بكم في العالم الواسع.. عالم سمسم
جمال الجمل
[email protected]