شاهدت فيلما أرجنتينيا بديعا اسمه (حكايات وحشية wild tales ). الفيلم مكون من ست حكايات، لا يجمع بينها إلا فكرة واحدة: الوحش فى الإنسان حين يطلق العنان لنفسه كى ينتقم.
أجمل الحكايات الستة فى رأيى هى الحكاية الأولى. تبدأ الحكاية فيها هكذا:
«عارضة أزياء حسناء ممشوقة القوام تسير مسرعة فى المطار. نعرف من خلال حوارها مع موظفة شركة الطيران أنها تسافر بتذكرة مجانية. كان محتما أن يحاول الجالس بجوارها فى الطائرة أن يغازلها. تبدأ طقوس التعارف المعتادة. تعرف من خلال الحوار أنه بروفيسير فى الموسيقى. تخبره بأن صديقها السابق قدم أطروحة لنيل درجة الدكتوراه فى الموسيقى. يسألها عن اسمه فتخبره أنه «باستيرناك» فيخبرها بأنه يذكره جيدا. لأنه كان رئيس اللجنة التى رفضت أطروحته.
السيدة التى تجلس فى المقعد الأمامى تخبرهما بأنها معلمته وأنه كان طالبا سيئا عندها. يتدخل شاب يجلس فى المقدمة ليخبرها أنه كان زميله فى الفصل. يا لها من مصادفة مدهشة!
يقف أحد الركاب ليقول: «الأمر أكبر من مجرد مصادفة، لأنه يعرفه هو الآخر». يتبين أن جميع من فى الطائرة أعداؤه. كلهم أخذوا تذاكر مجانية كى يركبوا فى هذه الطائرة.
يتبين أيضا أن «باستيرناك» هو قائد الطائرة، وأنه قد تعلم الطيران فقط لكى ينتقم منهم.
يا لها من وسيلة مبتكرة للانتقام، لم تخطر على بال أحد. تنهار الحسناء وتعترف أنها خانته مع صديقه المقرب. ويعترف البروفيسير بأنه دمر مستقبله لمجرد أنه كان منحرف المزاج يومها. وتعترف المعلمة بأنها كانت تعاقبه بقسوة بلا ذنب. يؤكد الزميل أنه كان يضطهده. يصرخ الطبيب النفسى، الذى تخلى عنه هو الآخر، بأن والديه هما السبب فى إصابته بهذا المرض النفسى.
طائرة الانتقام تقترب من الأرض، هناك حيث يجلس والداه المسنان فى حديقة المنزل. تكبر الطائرة كوحش خرافى. العجوزان يقفان فى دهشة. تكتسح طائرة الانتقام والديه العجوزين ليكتمل انتقام «باستيرناك» المبتكر.
■ ■ ■
وهكذا جمع المؤلف العبقرى جميع أعدائه فى طائرة واحدة لينتقم منهم. لا شك أن هذه الفكرة تداعب الكثيرين. أعنى أن تجمع كل أعدائك فى مكان واحد وتنسفهم.
ووجدتنى شاردا وأنا أفكر فى طائرتى الخاصة. هب أن هناك طائرة موجودة خصيصا لى، ومطلوب منى أن أجمع كل من أساءوا إلىّ فى هذه الطائرة. واكتشفت شيئا عجيبا جدا. كل المقاعد ستظل خالية ولن أجد راكبا واحدا. لا أدرى هل معنى هذا أننى كنت محظوظا جدا فلم يحدث أن أساء إلىّ أحد؟ أم أننى نسيت هذه الإساءات ولم أعد أحمل حقدا لأحد.
وشرعت أفكر فى شىء آخر: هب أن هذه الطائرة مخصصة لمن أحسنوا إلىّ. بالتأكيد ستزدحم الطائرة. يقينا لن يوجد مقعد شاغر واحد. فى مقدمة الطائرة سيجلس أبى وأمى، مُتوجين كملكين، جزاهما الله عنى خيرا، لأننى لا أستطيع أن أكافئ جميلهما ولو بالشكر.
باقى أسرتى ستملأ الطائرة. وكذلك أصدقاء العمر. ليس هؤلاء فقط بل معظم من صادفتهم فى حياتى كانوا طيبين ويستحقون أفضل المقاعد فى الطائرة. يبدو أننى بالفعل محظوظ جدا، وأن الله جل جلاله قد نثر الطيبين كالزهور فى دروب حياتى.
طائرة الإحسان ستقلع من مطار الحمد، وسأرتقى بها إلى السماء فى عروج لا ينتهى حتى يبلغ الحمد منتهاه. ولكن كيف ينتهى؟ إذا كان يارب حمدك نعمة تستحق الحمد، فكيف السبيل لعبد ضعيف أن يشكرك؟