ليس هناك عدو للدولة المصرية يسبب لها الأزمات ويضع في طريقها العراقيل ويهدد وجودها مثل الدولة المصرية ذاتها، فهي تدير مواقفها العادية بما يحولها إلى أزمة، وتدير أزماتها بارتباك يحولها بسلاسة إلى كوارث، وكأنها في ذاتها المتآمر الأول على وجودها واستقرارها، والفاعل الرئيسي في جريمة هدم أركانها.
لا أتحدث عن الدولة المصرية الحالية وحدها، وإنما أتحدث عن ذلك التراث العريق الممتد إلى أعماق التاريخ وربما منذ نشأة الدولة، وهو تراث متراكم من الفساد والفشل الإداري والانتفاع والضعف أدى بعد آلاف السنين من عمر الدولة إلى أن أصبح مستوى ثقة المواطن فيها صفرا.
ولنفترض أن جزيرتي صنافير وتيران كانتا أرضا سعودية لا نزاع عليها، وأن ذلك كان ثابتا بوثائق وشهادات لا شك فيها، ولنفترض أن هذا الحق تعززه أيضا آية من الوحي المنزل، هل كان المصريون سيثقون في سلامة نية الدولة في تخليها عن الجزيرتين؟ هل كان المصريون سيسلمون بأن الدولة تعرف ما تفعل، وتدير موقفها في هذا الملف بالشكل اللائق؟
بل هل تشفع لهذه الدولة أي سوابق من ذات النوع والعين، كموقفها القتالي الباسل من قضية طابا التي استغرقت سنوات لتحسم في النهاية بالتحكيم الدولي لصالح نفس الدولة التي نتهمها اليوم بأنها تبيع الأرض وتفرط في التراب الوطني؟
هذه دولة عملت لآلاف السنين لهدم مصداقيتها ومقدار ثقة المواطن فيها، إلى الدرجة التي حولت الجمهور المتلقي كله إلى جمهور من نوع خاص.. جمهور مستعد أن يصدق أي شيء يقوله أي شخص عدا الدولة، ولو جاءت الدولة بالدليل قاطعا بينا، ولو كان ما يقوله الشخص عدا الدولة مقطوع الصلة بالحقيقة عاريا من الدليل.
وهذا من طرف المواطن ليس فساد رأي وليس خيانة وليس عمالة وبيع ذمة، إنما هو النتاج الطبيعي لآلاف من السنين لم تقدم فيها الدولة المصرية لنفسها سبتا يستر آحادها مع الناس.
هذا حصاد ما تركته الدولة في نفوس المواطنين منذ نشأتها، لكن أذى هذا الحصاد في عصور السماوات المفتوحة، والمجالات المطلقة للاتصالات والتواصل، صار مضاعفا.
ففي وقت تغزو فيه ملايين المعلومات العقول بسهولة وسلاسة وسرعة غير مسبوقة، لا يمكن للدولة أن تحتفظ ببقائها لا بهذا القدر من الشفافية والوضوح، ولا بهذا الإيقاع في إبراز الشفافية والوضوح.
ما زالت الدولة المصرية ترى أن المواطن قاصر، وما زالت تفرض ولايتها على المعلومات التي تخص هذا المواطن، وما زالت الدولة المصرية تخفي أكثر مما تعلن، وتضلل أكثر مما تصرح، لا لوجه التضليل وإنما لأن التضليل صار جزءا من عقيدتها وفلسفة وجودها.
وفي مقابل هذا القدر الهائل والمنهجي من التضليل، صار المواطن المصري أكثر نزوعا بعقله للضلال، وأكثر ميلا بيقينه للشائعات ومكذوب الأخبار والتصريحات، ليصبح المواطن في النهاية عنصرا من عناصر هذه الدولة ساقطة المصداقية وساقطة الصدق.
هذا هو السبب الذي جعل إيطاليا تقدم تكذيب الرواية الرسمية بشأن جوليو ريجيني على تصديقها، وهو السبب الذي جعل كل مصري يقطع بتورط الداخلية في مقتل الشاب الإيطالي وكأننا جميعا تحولنا إلى أطباء شرعيين محترفين.
ولو عاد ريجيني من نومته الأبدية وأقسم على براءة الشرطة المصرية من دمه لما صدقه أحد، ولظل الجميع على قناعاتهم بأن هذه الدولة التي اتخذت «اللوع» منهجا لنفسها، هي بالتأكيد المتهم الأول في أي مصيبة.
الغريب حقا هو أن الاتهامات التي تواجهها الدولة المصرية تتفق معا في أنها تتهم الطرف الذي أضير أكثر من الجريمة، وكأنه من المنطقي أن يرتكب شخص ما جريمة لمجرد الإضرار بنفسه، لكن حتى هذا العوج المنطقي يعني أكثر إذا وضع أمام العوج الذي تقدمه الدولة المصرية بنفسها عن نفسها.
هذا هو الإرث الأقدم في هذه البلاد، وتشير الأحداث إلى أنه أصبح الإرث الأثقل والأقدر على القضاء على هذه الدولة من جانب صفتها كدولة.