مجلس النواب على وشك إصدار قانون لما سماه «تنظيم وسائل التواصل الاجتماعى»، هكذا أعلن رئيس المجلس، جاء ذلك فى إطار تعقيبه على بيان أحد الأعضاء، والذى قال فيه إن الفيسبوك تجاوز كل الخطوط الحمراء، مستخدماً تعبير «فوضى الفيسبوك»، أيضاً اللجنة المكلفة بدراسة محور الأمن القومى ببيان الحكومة كانت قد أوصت بوضع ضوابط لوسائل التواصل الاجتماعى «تحديداً فيسبوك»، عدد من النواب طالبوا بإغلاق الموقع بمصر، بعضهم زعم أنه يمثل خطراً على الأمن القومى.
كما هو واضح، أصبحت مواقع التواصل- «الفيسبوك وتويتر» بصفة خاصة- تمثل صداعا حقيقياً للأنظمة، لنكن أكثر دقة وتحديداً، هى تمثل صداعاً للأنظمة الشمولية، أو للأنظمة الديكتاتورية، أو للأنظمة ضيقة الأفق، أو للأنظمة التى لديها ما تخفيه، وما تخاف منه فى الوقت نفسه، لو أن هذه التقنية كانت موجودة خلال الحقبة الشيوعية ما كان يمكن لها أن تدخل تلك البلدان أبداً، هى فعلاً بمثابة تهديد للأمن القومى فى هذه الحالة، لأنه لم يكن جائزاً الحديث أو الخوض فى أى موضوع من أى نوع، حتى فى الخفاء، ما بالنا حينما تصبح المناقشات مفتوحة بهذا الشكل، لم يكن مسموحاً تصوير جمعية استهلاكية، أو مركز لمحو الأمية حينذاك، كيف يمكن إذن وضع صورة هذه أو تلك على أى من المواقع؟
فى بلدان الشفافية المطلقة، أو الديمقراطية الحقيقية، أصبح الفيسبوك موازياً للصحف اليومية، قد يكون موازياً لباب «بريد القرّاء» فى هذه الصحف، الشعب يعبر عن نفسه بكل سهولة، دون وسيط، هى فضفضة مستمرة، تعبير عن الذات دون رقابة، كتابة مذكرات دون تكلفة، مناقشات المصاطب والمقاهى والمنتديات والمؤتمرات فى صورة أخرى، تبادل الآراء والحجج والذرائع، حكايا التاريخ والقصص والمعلومات، بدءاً من القضايا السياسية الشائكة، وحتى خبرات الطهى والحياكة والتطريز، وتربية الأطفال وترويض الحيوانات، ولقطات الكوميديا والدراما، فى آن واحد.
كنت أتوقع تركيز المطالبات من خلال البرلمان أو غيره، حول تهذيب لغة الحوار فى مواقع التواصل، هذه اللغة التى خرجت عن المألوف كثيراً، من خلال فاقدى الوعى والإحساس أحياناً، أو معتادى البذاءة والتطاول أحياناً أخرى، كنت أتوقع الدعوة إلى توقيع غرامات مالية على هؤلاء، أو حرمانهم من هذه الخدمة، أما ما هو متداول الآن من أطروحات ومصطلحات قوية وعنيفة داخل البرلمان- مثل الإضرار بالأمن القومى، والإضرار بالأمن العام، والإضرار بأمن الحياة الدنيا، وهو ما جعل الأمور تصل إلى دعوات لإغلاق هذه الوسيلة، أو تلك النافذة- فبالتأكيد هو حق يراد به باطل، أو هكذا يحق لنا أن نفهم، هو اصطياد فى الماء العكر، هو فى حقيقة الأمر تضييق على التعبير، الذى أصبح بمثابة استطلاع رأى عام على مدار الساعة.
ردود أفعال الجماهير أيها السادة، أو استطلاعات الرأى العام هذه، ربما هى الأصدق على الإطلاق، رغم ما شابها الآن من مفاسد عديدة، تمثلت فى الدخول على الخط لما يُعرف باللجان والكتائب الإلكترونية، أو الأشخاص مدفوعى الأجر، هذه اللجان أصبحت واضحة للعيان، تعمل لصالح الجهات الرسمية فى بعض منها، والبعض الآخر لصالح مؤسسات خاصة، والبعض الثالث لصالح أفراد، هم يفترسون صاحب الرأى الآخر، ينهشون معارضيهم، يشككون فى كل ما يمكن أن يكون ذا قيمة، أو ما يمكن أن يصبح قيادة فاعلة ذات يوم، أو ما يمكن أن يكون قدوة حسنة، لذا أصبح المجتمع بلا كوادر، أصبح الجميع مشوهين.
القضية الأساسية الآن هى أن الرأى العام أصبح شريكاً فى صنع القرار، رغماً عن أصحاب القرار، أفرزت وسائل التواصل الاجتماعى أحزاباً ونقابات وجمعيات حقيقية، من خلال التجمعات الفيسبوكية بصفة خاصة، أصبحت بمثابة عامل ضغط على صناع القرار، أصبحت تدلى بدلوها فى كل القضايا، أصبحت تكشف التاريخ الأسود لأى مسؤول، بمجرد تعيينه فى أى موقع، وهو لا يستحق، أصبحت تكشف الغرض الحقيقى من هذا القرار أو ذاك، تشير إلى جماعات المصالح فى هذا الشأن، لا أتحدث هنا عن مصر تحديداً، وإنما عن الدول المهترئة ككل، بدليل أننا لا نجد هذا الهلع فى الدول المتماسكة، أو المحترمة، أو المتقدمة، هم يدركون أنه لم يعد ممكناً طمس الحقيقة، كما لم يعد مقبولاً التدليس على الشعوب، كما لم يعد ممكنا كتم الأنفاس، حتى لو تم تسجيل بيانات الرقم القومى لكل حساب، كما هو الهدف حالياً.
مما لا يدركه قصار النظر أن خدمة الإنترنت بصفة عامة سوف تصبح بعد نحو ثلاثة أعوام من الآن خدمة فضائية مجانية، يستقبلها العالم، كل العالم، عن طريق الأقمار الصناعية، لن تستطيع أى دولة، أو أى نظام متسلط التحكم فيها، أو منعها لأى سبب، بالتالى كل مواقع التواصل الاجتماعى سوف تخضع لنفس التقنيات، سوف تتمرد على الأنظمة المحلية، وهو ما يجب أن نؤهل أنفسنا للتعامل معه، ولتذهب إلى الجحيم كل الأفكار المتخلفة.