(1- تمهيد)
هل مصر عنصرية؟ قبل أن تتسرعوا بأي إجابة، أعترف أمامكم أن لدينا تنابذ اجتماعي وتنابذ باللون واستهزاء جغرافي بالصعيدي والمنوفي والدمياطي.. وهذه سلوكيات توحي فعلاً بالعنصرية، ومع ذلك لا يجب أن نتسرع ونغني «يا عنصري يا أبوبندقية تعالى موت الست دية».. على وزن الأغنية التراثية المعروفة «يا عسكري يا أبوبندقية..»، لأن الإجابة الحاسمة تحتاج إلى رؤية أكثر هدوءًا، وتحتاج أيضا أن نضع التاريخ الطويل العميق في مواجهة اللحظة البائسة التي نعيشها، وعلى أي حال هذه محاولتي المتواضعة للإجابة عن السؤال المقلق الذي طرحته الصحيفة العربية: هل مصر عنصرية؟
(2- موقف قديم)
في تسعينيات القرن الماضي، كتبت مقالاً بعنوان: أيهما أجمل.. مادونا أم مانديلا؟!
لم يكن مقالي عن العنصرية، لكنه كان مناقشة فلسفية للناقد السينمائي سمير فريد حول قضية الحرية.. هل هي مطلقة أم نسبية؟ وكان النقاش يتعلق بقرار منع فيلم «قائمة شندلر» من العرض في مصر بحجة مغالطاته التاريخية دفاعاً عن اليهود وقصة المحرقة، حينها كنت أنطلق من «ثوابت» تتعلق برؤيتي للصراع العربي الصهيوني، فلم أنظر للقرار باعتباره قيداً على حرية الإبداع، ولكن كحق للدفاع عن الثوابت القومية، وضربت مثلاً بحق «مهرجان كان» في الحفاظ على «ثوابته» الفنية واللائحية برفضه في ذلك العام عرض فيلم مصري في مسابقته، فهل يجوز أن نعطي حق المنع لمهرجان يعتبر الفيلم أقل من مستواه، ونسحبه من دولة ترى في عمل ما تجديفاً على معتقداتها، أو تحريفاً لتاريخها، أو تشويهاً لصورتها، أو اعتداءً على ثوابتها؟.
(3- انقلاب)
لا أنكر أنني شاهدت الفيلم حينذاك، رغم موافقتي على منعه العام!.. وهذه الازدواجية تحوّلت بداخلي إلى إشكالية أرقتني كثيراً بعد ذلك، فقد انقلبت أحوال المنطقة وتصادمت «الثوابت»، وأسفر صدامها عن أسئلة كثيرة حائرة وملغّزة، من بينها سؤال: هل نحن عنصريون؟/ و«نحن» التي يتضمّنها السؤال عن العنصرية، لا تقتصر على مصر، لأن هذه القضية الإنسانية المعقدة لا يمكن تناولها بشكل صحيح داخل حدود دولة أو مرحلة زمنية، صحيح أن السؤال قد ينكمش ليصبح مجرد إجابة فردية من كاتب مصري يدافع عن بلده فيقول: (ليست لدينا عنصرية أبداً) أو يهاجمها في موجة الهجوم العشوائي التي تخلط بين نظام الحكم والدولة، بل المجتمع كله فيقول: نعم.. نحن نضطهد السود والمرأة والأقباط والبدناء والإخوان والغرباء والأجانب و...)، وقد يتوسع تعريف كلمة «نحن» وسؤال العنصرية ليشمل الإنسانية كلها بتاريخها الطويل، وحينها سنصطدم بتوصيف قابيل كقاتل عنصري، لأن القضية كما وصلتنا تتضمن مشاعر غضب وتمرد ضد التمييز، كما تتضمن نظرة نسبية لمقاييس الجمال ورغبة مطلقة في المساواة، ونسبية الحقوق! ومن هنا تنفرط الأسئلة المفتوحة على سجال لا نهائي، أقدم لكم جانبا منه على سبيل العصف الذهني والتحريض على التأمل، وليس بالضرورة للمطالبة بإجابات مجمدة ومغلفة:
(4- أسئلة للعصف الذهني)
* هل كان هابيل يشكل عنصراً لديه امتيازات «أعلى»، دفعت قابيل للثورة على وضعه «الأدنى»؟
* هل كان قابيل من عرق أو لون أو دين مختلف عن هابيل؟
* هل سخر هابيل من شقيقه منتقصاً من قيمته بعد رفض قربانه؟
* وأخيراً هل يمكن توصيف جريمة القتل بأنها «جريمة عنصرية» بسبب التمييز؟!
(5- مجتمع مابعد عنصري)
هذه الأسئلة الافتراضية ليست بغرض الاستفزاز أو استثارة مشاعر دينية، أو التشكيك في روايات قديمة، أو التصنيف التعسفي لأحداث الماضي بما يتوافق مع مواثيق ومفاهيم الأمم المتحدة التي لم تكمل قرنها الأول بعد، لكنها تحريض على استدعاء الفلسفة والتاريخ للنظر للقضية من غير تأثر وقتي بأوجاع اللحظة المرتبكة وفقط، كما أنها مدخل للاعتراض على استسهال توصيف ما يحدث في مصر باعتباره «عنصرية»، بالرغم من أن مصر تعاني فعلاً من أعراض اشتباهية كثيرة قد توحي بالعنصرية، فلدينا تحرش واسع النطاق، وتهتّك في النسيج الاجتماعي، وتحلل قيمي وأخلاقي، وتشظٍّ مفرط، وتناحر يصلح أن نسمّيه (ما بعد عنصري) أو نحذر من تفاقمه مستخدمين تعبيراً معاكساً (ما قبل عنصري) لكن مصر (بأي معيار موضوعي) ليست دولة عنصرية، لا بالمعنى الذي حدّدته مواثيق الأمم المتحدة، ولا حتى بتحليل الشكاوى التي يرددها أفراد وفئات تعرضوا لانتهاكات وإيذاء بدني ونفسي، أو تم تحجيم تصوراتهم وأحلامهم في المجتمع لسبب ما، فهذه مشاكل أخرى تجب مواجهتها باعتبارها جرائم تهدد السلام الاجتماعي وتتعارض مع مبادئ الدستور وقيم الأخلاق والأديان.
(6- آهات العنصرية المشتهاة)
إذا نظرنا في ملف الدعاوى التي تسعى لإثبات عنصرية مصر، سنكتشف أنها تتعلق بالعلاقات الاجتماعية، أكثر مما تمس المستوى الرسمي من دستور وتشريعات وامتيازات سلطوية، فالحديث الدائر (بعيداً عن حالتي الأقباط والنوبة) يتعلق بالتنابذ الاجتماعي والسخرية من داكني البشرة، سواء في الشارع أو في الأعمال الفنية (سينما ـ مسرح ـ كاريكاتير)، فقد أثيرت ضجة ضد رسوم فنانة الكاريكاتير «فاطمة حسن» لسخريتها من امرأة سوداء، ثم من امرأة بيضاء بدينة.. هذا عمل لا يليق بمجتمع متحضِّر، لكن فاطمة أيضاً صعيدية سمراء، وكانت مثل قريناتها قبل سنوات تشكو من احتكار الرجال لفن الكاريكاتير، كما أن فاطمة لم تفعل أكثر مما فعله «عثمان عبدالباسط» بربري مصر الوحيد الذي اخترعه الممثل الكوميدي على الكسار كشخصية فنية يقدم من خلالها رسالته الفنية، قد يكون الكسار نفسه قد استثمر لونه تجارياً وفنياً، وقد يكون قد ساعد هو نفسه على حصار شخصية «النوبي» في هذا «الكاركتر» الذي حقق له مصلحة فردية، فيما أضر بالصورة النمطية للنوبيين في الذهن العام، قد يرى البعض أن الكسار لم يبتكر شخصية «البربري عثمان» من خياله، لكنه تلقفها من واقع ظالم حاصر النوبيين والسود عموماً في لون جلودهم، ولم يسمح لهم بأكثر من أدوار السفرجية وحراس البنايات، وقد يرى غيرهم العكس فيستشهدون بالمناضل الشيوعي زكي مراد والفنانين محمد حمام ومحمد منير، والكتّاب والروائيين ومشاهير البشرة الداكنة.
(7- من التعايش إلى التناحر)
في رأيي أن القضية ليست بالمقارعة في اتجاهين متعاكسين، القضية تتعلق أكثر بسؤال قدرة المجتمع على احتواء الفئات والعناصر المختلفة بداخله، ولا شك في أن مصر من المجتمعات ذات المعدة الحضارية القوية التي تمكنت من هضم عشرات الجنسيات والعرقيات ومختلف الأديان في نسيج اجتماعي متجانس، بحيث لا يمكن تحديد ملامح موحدة للسحنة المصرية تشمل أهل مطروح والإسكندرية والأقصر والفيوم وسيناء، هناك تنوع كبير في الوجوه والعادات والتقاليد، وحتى في الأخلاق والأديان أيضا، لكن هذا التنوع لم يعطل سلاسة العلاقات الاجتماعية، في معظم المراحل، لكن في لحظات الضعف، وتحت وطأة الأزمات ما أسهل أن يتحوّل الانسجام إلى تناحر، ولا شك في أن هذا التناحر يبدأ أول ما يبدأ في النقاط الضعيفة، والمخترقة، والمتحوصلة، والباحثة عن هوية أخرى، أو المنغلقة على نفسها لأسباب خارجية أو داخلية. وهنا تظهر مشكلة الهوية الكامنة، التي تتضخم من «هوية فرعية» يجب احترام ثقافتها الخاصة في إطار التنوع، إلى «هوية مضادة» تسعى هي بنفسها لاستثمار أي خطأ أو تجاوز كمبرر لغشها و«هويتها» في مواجهة «الهوية العامة». وبالتالي تنحرف العلاقة من البحث عن أفضل السبل لتحسين التعايش، إلى مستنقع الإدانة والتنابذ والتناحر!
(8- في مديح السمر الشُداد)
حديثي عن صراع الهويات في مصر، لا ينطلق من فكرة نمطية عن حضارة الـ 7 آلاف سنة، وعظمة التجانس المطلق ومثال التسامح العظيم الذي قدّمه الشعب المصري عبر تاريخه، فهذه الأساطير لم توجد في تاريخنا قط، لأنه تاريخ طويل من التنوع الشديد، والتعايش بين ثقافات فرعية، مختلفة في عاداتها وتقاليدها ولهجاتها وأحياناً لغاتها، ولفترات طويلة كانت قبائل (تشعر بالغبن في هذه المرحلة، وربما تشكو من العنصرية) كانت هي التي تشعر بالتفوق على الآخرين وتحرم (مثلاً) زواج بناتها منهم، لذا فإن مشكلة الأبيض والأسود في مصر (على سبيل المثال) ليست مشكلة عنصرية، ومحاولة فهمها بهذه الطريقة المتعسّفة هي مغالطة تاريخية تفضحها مدائح الأبطال السمر الشداد، كما تتناقض معها غزليات الغناء للسمراوات، فالصعيدي محل سخرية، لكنه أيضاً رمز للشهامة والقوة والحفاظ على الشرف، كما أن «المنوفي» أبيض لكنه لا يسلم من السخرية، وبالتالي علينا أن نتأنى قبل توصيف هذه السلوكيات بالعنصرية، لأنها في تقديري نوع من «الثقافة المتدنية» التي تميل للتنميط وتعويض النقص بالسخرية من الآخر، فالدمياطي بخيل، والبدوي غادر، وهذا كسول، وذلك خبيث، وهي تصنيفات يمكن فهمها من خلال دراسات «الصورة النمطية» التي يعاني منها العالم كله تقريباً، فالأيرلندي «بخيل»، والألماني «ماكينة»، والسوداني... والصيني... والروسية... وهذه التوصيفات قد تتفق عليها الشعوب، وقد يرى البريطاني الفرنسي بصورة نمطية غير التي يراه به اللبناني، وقد تكون المرأة الروسية في مصر «فتاة ليل»، بينما هي في أمريكا «جاسوسة»، وفي ألمانيا «عالمة» أو «محاربة»!.
(9- الهوية السائلة)
هذا الشرح المبسط ينقلني إلى خلل الهوية الذي أصاب مجتمعنا، نتيجة هزيمة حضارية أدّت إلى سيولة هويته القومية الجامعة، ثم تحوصلها في هويات لا نهائية تبدأ من الفرد (حيث هاجس المقارعة بصورته الرمزية على تويتر أو فيس بوك، وتلذذه بالسخرية من غيره) وتمتد متوالية الهويات المتشظية لشمل فئات اجتماعية غير تقليدية لا تخضع لأنماط العنصرية مثل العرق والسلالة والدين، لكنها تشمل فئات نقابية ووظيفية وأنصار الفنانين ومشجعي كرة القدم، بحيث انحدرنا إلى «مجتمع الألتراس» الذي قام على أنقاض «أشلاء الدولة القديمة»، حيث يزداد التلاسن والتحرّش والخشونة، ليس في المناطق العشوائية والشوارع المظلمة فقط، لكن بين القضاة والمحامين والأطباء ورجال الشرطة، وحيث أصبحت السافرة تشكو وتتعرّض للمضايقات كما تشكو المنتقبة والمحجبة، والبدينة والنحيفة، والمطلقة، و«العانس»، والقصير، والطويل، والدميم، والوسيم، والأحول، والشيوعي، والإخواني، والمواطن السلبي (حزب الكنبة)، والناشط الاجتماعي (الحكوكي)، والجاهل، والمثقف الحنجوري الذي يكتب مقالاً مثل هذا المقال!
ومع ذلك لا أفضّل تسمية هذه الأعراض القبيحة بأنها «عنصرية»، لكنها مظهر واقعي للهزيمة الرسمية والثقافة المتدنية في دولة «الأشلاء».
(10- أمنية)
لسنا عنصريون فعلأً، نحن فقط: متعبون.. مخنوقون، وما نكرهه فينا، ليس إلا أعراضا زائلة، لمرضٍ نبحث له عن علاج.
جمال الجمل