ربما نتوقف طويلاً أمام عبارة أصبحت تمثل سمة لمجتمعنا الآن، وهى «عاوزين أفكار من خارج الصندوق». فأنظار الناس جميعاً اتجهت إلى خارج الصندوق.. الكل يجتهد فى البحث، ولم يكلف أحد نفسه بالنظر إلى الداخل.. إلى الصندوق نفسه!
أشياء كثيرة داخل الصندوق لم يفكر أى منا حتى فى مجرد الاقتراب منها، واكتفى باتباع «سلو بلدنا» فى مشاركة الآخرين بحثهم عما هو خارج الصندوق. عشرات الأفكار يتم الحكم عليها يومياً بالموت تحت زعم أنها ليست من خارج الصندوق.. ولكننا لم نسأل أنفسنا بصدق عما بداخل الصندوق أو حجم هذا الصندوق من الأساس؟!
قبل عقدين من الزمان اجتمعنا مع عدد من الزملاء على عشاء عمل مع مساعد وزير الداخلية الأسبق للإعلام والعلاقات اللواء شريف جلال، وخلال جلستنا - التى امتدت إلى ساعة متأخرة من الليل - ظل يحدثنا عن مزايا قانون المرور الجديد، وكيف سيحدث نقلة حضارية فى الشارع المصرى، وأن وزارة الداخلية تنتظر هذا القانون لتغير الشارع، الذى غلبت عليه «الشراسة» خلال السنوات الأخيرة.
لم تسأل وزارة الداخلية نفسها - آنذاك - هل كانت هناك مشاركة مجتمعية حقيقية فى وضع هذا القانون.. وهل الشوارع وأرصفتها والميادين الرئيسية مهيأة للتطبيق.. وقبل كل ذلك.. هل المواطن نفسه مؤمن بهذا التغيير؟!.. أسئلة تحتاج إلى عشرات المجلدات للإجابة عنها!
فى الحديث عن أزمة المرور نهرب سريعاً للتفكير خارج الصندوق.. إلى اليابان مثلاً وآلية مرور السيارات بهذا الكم دون أن يحدث أى تكدس. ننظر إلى الشكل، ولكننا لا نجهد أنفسنا فى البحث عن المضمون. لم نسأل أنفسنا «لماذا تقدمت اليابان؟».. الإجابة بسيطة- ومن داخل الصندوق- لأن شعبها يفكر بشكل «جماعى»، ويطرح أفكاره فى «ورش عمل». أما نحن فى مجتمعاتنا العربية، فإن الهدف الأول هو إرضاء المدير!.. وبالتالى يسعى الجميع لتقديم أعظم فكرة تنال إعجاب «الباشا»، وهنا تكمن الأزمة فى أن كلاً يخفى عن الآخر فكرته أو حتى ملامحها، منتظراً الدور والوقت المناسب لإعلانها حتى يصفق له الجميع مرددين «أنت عبقرى.. أنت نابغة»! بينما لو طرح صاحب الفكرة فكرته على الجميع فى ورشة عمل، لكان قد وصل إلى ما هو أهم من الفكرة الأصلية، واستفادت مؤسسته ومن بعدها وطنه بما توصل إليه الجمع!
وعن أزمة المرور فحدث ولا حرج، فقد فتحنا الباب أمام تقسيط السيارات ولم نفكر فى كيفية الخلاص من السيارات القديمة، التى انتقلت تدريجياً من شرائح أعلى إلى أخرى أدنى، وتضاعفت الأعداد بالشوارع دون حسيب أو رقيب. تركنا المستخدمين معلقين على الكبارى وفى الميادين الكبرى، دون أن نفكر فى إقامة «جراجات» مناسبة على أراض حكومية غير مستغلة فى الأحياء ذات الكثافات الكبرى. تركنا المواطن البسيط يصارع السيارات أثناء عبوره للطرق دون أن ننظر إلى حقوق المشاة فى رصيف ممهد وآمن.
أبعاد أزمة المرور فى مصر معقدة ومتنوعة ومتشابكة - كما تصفها دراسة صادرة عن مركز الإدارة العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة - مؤكدة أن آثارها السلبية والمدمرة واسعة ومنتشرة، وتؤدى إلى العديد من الإخفاقات، منها التأخر المستمر فى الوصول للعمل بالأوقات المخططة لبدء العمل يومياً، وتدهور مستوى أداء الخدمات المقدمة للجماهير أو الوظائف المتتابعة حتى الوصول للمنتجات النهائية أو الوسيطة، وانخفاض مستوى رضاء الجماهير عن مستوى أداء الخدمات التى يحصلون عليها.
فى زيارة الخديو إسماعيل لباريس عام 1867 لحضور معرض عالمى، طلب شخصيًا من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المخطط الفرنسى «هاوسمان»- الذى قام بتخطيط باريس- بتخطيط القاهرة الخديوية. وفى مقابلة التكليف بين الخديو إسماعيل وهاوسمان، طلب إسماعيل من هاوسمان أن يحضر معه إلى القاهرة كل بستانى وفنان مطلوب لتحقيق خططه.. وقدم لنا الفرنسيون أجمل تحفة معمارية تمثلت فى «القاهرة الخديوية».. ومن يومها أصبحت الفكرة واضحة.. و«الصندوق» أيضاً.
شعوب العالم تتعلم وتتذكر وتنظر إلى الصندوق أولاً.. إلا نحن كما قال فيلسوف الأدباء نجيب محفوظ.. «آفة حارتنا النسيان»!
facebook.com/sherifarefpress