أفهم أن تتقوَّل على، أو على غيرى من البشر، ولكن لا أفهم أبدًا أن تتقوَّل على نبىٍّ أو إلهٍ، أو دينٍ سماوى، بأن تحذف منه أو تُضيف إليه من عندك ما ليس موجُودًا فى المتن الأساسى للدين، لكن - للأسف - هذا ما نجده – يوميًّا - من تُجَّار الدين المُتزمِّتين الجُهلاء، المتكئين على مقاعد ليست لهم، ولا يستحقونها، لأنهم ناقصون فى العقل والدين، وليسوا مُؤهلين سوى فى كنز المال، وجمع مُتع الحياة فى أيديهم، فهم يُشوِّهون تعاليم الإسلام، ويشنِّعُون عليه، ويوظِّفُون الدين للسياسة، وهم خدم لأية سلطةٍ، وأى سلطان، ويغيِّرون بوصلتهم مع الريح الكاسبة والأعلى، كأنهم فى خصومةٍ ثأريةٍ مع الله وكتابه، وهم عندى ليسوا أكثر من مُفسدين فى الأرض، وإذا ما استمروا هكذا؛ فسيصبح الإسلام غريبًا كما بدأ غريبًا فى الأرض.
وفى ظروف لا سيادة فيها إلا لدعاة الخُرافة والفتنة والسواد والجمُود والتحجُّر والتكفير، حيث لا اجتهاد مع جهل، وهنا أستدعى من أبى العلاء المعرِّى (363 هـ - 449 هـ - 973 -1057م ) قوله الشعرىّ «وما فى الناسِ أجهلُ من غبى… يدومُ له إِلى الدنيا ركونُ»، إضافةً إلى تفشِّى الجهل الدينى، وغياب العقل، وعلو منسوب الأميَّة الثقافية، يصبح الاجتهاد ضربًا من الجنون، والزج بالنفس فى أتون السفسطة والعُقم، فى مناخٍ يتربَّص بالمعرفة والخلْق والبحث والسؤال.
ولأن الله لم يفوِّض أحدًا من عباده؛ ليتولَّى شؤون الدين نيابةً عنه، ولم يختص فردًا بعينه بعد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون خليفةً له فى الأرض، فلماذا – إذن - انتشر هؤلاء الخلفاء والمُفوِّضون والنُوَّاب لله فى الأرض، ليحملوا الدين بدلا عنه؟
ولأن الإله فى سمائه لا يحتاج إلى عاملٍ مساعدٍ أو وسيطٍ، ولأنه هو من قال فى الآية الثالثة من سورة الأعراف «اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ»، فلماذا يتطوَّع هؤلاء لخطف مقعد الإله، والتحكُّم فى رقاب العباد بالباطل وسوء الظن دومًا.
ويمكن للمرء أن يقبل أن يكون هناك آخر يعتنى بشؤون الدنيا، وليس بشؤون الدين، لأنها من اختصاص الله سبحانه وتعالى، وليست من اختصاص العباد الذين ارتدى بعضهم رداء النبوة أو الرسولية، وهناك من رأى نفسه فى مقام الربوبية، دون أن يرمش له جفن، كأنهم لا يدرون أن الدين إذا دخل السياسة، فهو يدخل للمعاضدة والمُساندة، كما تفعل النظم الديكتاتورية فى بلادنا، حيث يترك الساسة لرجال الدين الحبل على الغارب، وكذا لا يتدخَّل رجال الدين فى أمور السياسة إلا مُؤيِّدين مسبِّحين داعمين، ومن ثم يغيب العدل، وتختفى الشورى والمساواة، وتنتفى الحريات العامة.
وإذا كان سيد قطب (9 من أكتوبر 1906م – 29 من أغسطس 1966م) كان ينظر «من علو إلى الجاهلية التى تموج فى الأرض»، فإن أحفاده الجاهلين بالدين - الذين يتاجرون به ويستغلونه - مازالوا لم يبارحوا هذه النظرة، حيث يعتقدون أن غيرهم فى جاهلية أولى، وينبغى لهم أن يعودوا مسلمين.
وهؤلاء الذين يظنُّون أنهم أعلم خلق الأرض بالدين، هم فى حقيقة الأمر ينطبق عليهم قول ابن قتيبة (213 هـ - 15من رجب 276 هـ/828 م -13 من نوفمبر 889 م) «لا يزال المرء عالمًا ما دام فى طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد بدأ جهله»، إذ الجهل شرٌّ مُحدِّق بصاحبه، وبالإنسان الذى يمارس هؤلاء الأشرار سلطتهم عليه، وقديما قال ابن عطاء الله السكندرى (658 هـ / 1260م - 709 هـ / 1309م): «لأنْ تصحبَ جاهلا لا يرضى عن نفسه، خيرٌ لك من أن تصحبَ عالمًا يرضى عن نفسه»، وهؤلاء راضون عن أنفسهم تمامًا، وإلا ما نصَّبُوا أنفسهم متحدِّثين وحيدين باسم السماء، ولا يأتيهم باطلٌ أبدًا من بين أيديهم، ولا يصدر خطأ واحدٌ من أحكامهم وفتاواهم، التى للأسف هى بعيدةٌ كل البعد عن صحيح الدين وجوهره، وهؤلاء لم يحتملوا ذُلَّ التعلُّم ساعةً، ومن ثم بقوا فى ذُل جهلهم أبدًا، حيث استوت لديهم الأنوارُ والظلمات، وهم متحمِّسُون لنشر جهلهم بين العباد، باعتباره عماد الدنيا والدين، وأنه العلم اليقين، والنور المبين، الذى سيجلو القلوب، التى صدئت من كثرة التفرُّط فى الدين، إذ يحملون جهلا ذا طبقاتٍ متراكمةٍ، فى صورة مسلَّمات وحقائق جاءت فى القرآن والسنَّة، وهى ليست سوى أكاذيب متواترة.
وأصل مشكلاتنا هو الجهل، وما نعانيه من معدُومى العقول، وهو ما يجعل صُورة الدين شوْهاء بين سائر الأمم، وكذا بين بعض أهله، الذين ارتدُّوا عنه، أو أهملوه، أو لم يعودوا يُصدِّقون شيئًا، وصاروا فى حيْرةٍ من أمر دينهم، بعدما عاث الجاهلون إفسادًا لكل متنٍ صحيحٍ، إمَّا بالبعد عنه وإسقاطه، أو بشطبه وعدم الالتفات إليه، أو تشويهه بالاقتطاع والاجتزاء، وفساد التأويل، ومن ثم تسمَّم المجتمع، واختلف الناس، وتفرَّقوا، وصاروا شِيَّعا وفِرقًا تحارب وتكفِّر بعضها بعضًا، ولأن الجهل هو سلام الحياة لمثل هؤلاء فهم يعيشون فى طمأنينةٍ مع أنفسهم، فى ظل تنفُّسهم لجهلهم - الذى لاشك جهلٌ صادقٌ - وممارستهم السرقة والقتل والحرق والتكفير والاعتداء على الحُرمات واستحلال مال المسلمين والأغيار على حدٍّ سواء، لأن المسلم الذى يختلف فكريا عنهم، هو فى عرفهم كافر وينبغى قطع رأسه.
وإذا كان هناك جهلان فيما نعلم، الأول بسيط، وهو أن «أن يجهل الإنسان الشىء وهو عالم بجهله»، والآخر مركَّب، وهو ما أعنيه هنا، أى: «أن يجهل الإنسان الشىء وهو لا يعلم بجهله»، إذ لا يعترف المتأسلمون، ولابسو الدين وبائعوه أنهم جهلاء مخطئون، وهؤلاء يعتقدون حقًّا وصدقًّا أنهم علماء وفقهاء وعارفون وأئمة، لهم الكلمة الأولى والعليا فى الدين، لا يقلون بل ربما هم فى أنفسهم يؤمنون أنهم أعلى مرتبةً وشأنًا من كل فقهاء الإسلام على مدار عصوره، وقد يقفون عند واحدٍ أو اثنين، ودونهم زنادقةٌ وكفارٌ، لأنهم يختلفون معهم فقط فى المذهب والمعتقد، وهؤلاء قال عنهم الله سبحانه وتعالى فى سورة الكهف، الآيتين 103 و104 من قرآنه: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»، وفى الآيتين 11 و12 من سورة البقرة: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ».
ورحم الله ابن سينا (370هـ 980م - 427هـ 1037م) حين ذكر فى كتابه «الإشارات والتنبيهات»: «إياك وفطانةٌ بتراء» يريد بذلك الجهل المركَّب.