لم تعد كرة القدم مجرد لعبة تسلية أو لتقضية وقت الفراغ، ولم تعد كذلك تمرينا جسديا خالصا، بل صارت مع الأيام ظاهرة اجتماعية متكاملة الأركان، تعبر فى جانب منها عن سيكولوجية شعب معين، لتكشف لنا عما إذا كان متراخيا كسولا أو مقاتلا مثابرا، لا يسلم بالهزيمة ولا يعرف اليأس. وتعبر فى جانب أعم وأشمل عن صيغة للتفاعل الاجتماعى الخلاق الذى يقوم على حد من العدالة النسبية لا تطاولها الحياة العادية للبشر، ولاسيما فى بلد غابت فيه العدالة عن كل شىء تقريبا.
فمهما اختلفت الإمكانيات بين الفرق، فكل منها تمثل بعدد محدد من اللاعبين، يخضعون لتحكيم محايد، ويمكن للصغير منهم أن يهزم الكبير، والضعيف أن ينال من القوى، ومن فى ذيل القائمة يسقط من يعتلى صدارتها.
وما زاد من تعميق تواجد كرة القدم كظاهرة اجتماعية سياسية - التعويل عليها فى تخفيف حدة الخلاف بين الشعوب عبر ما تسمى بـ«دبلوماسية الرياضة»، وفى حوار الحضارات وتعزيز التعارف بين الشعوب، وبناء نمط جديد من العلاقات الدولية، والمساهمة فى إيجاد مجال بديل للتنافس الدولى بعيدا عن التناحر والاقتتال والحروب، كما أنها صارت قوة ناعمة للدول، فدولة مثل البرازيل حظيت، ولا تزال، باحترام شديد فى العالم كله لبراعة منتخبها الوطنى.
قبل ثلاثة أيام تابعت مباراة مصر ونيجيريا، ليس لأنها مواجهة فى الكرة، بقدر ما هى اختبار سياسى، فالسلطة كانت حاضرة ببعض المسؤولين، وجهاز الأمن كان محل اختبار بعد سنوات من غياب الجماهير عن الملاعب، والجمهور نفسه كان واعيا لانعكاس حضوره على الوضع السياسى، وفى النهاية لا يمكننا إغفال أن الفوز والتأهل لبطولة كأس الأمم الأفريقية، ثم تقدم مصر لتكون فى التصنيف الأول للمجموعات التى ستتبارى بغية الوصول إلى كأس العالم فى روسيا 2018، سيسهم ولو بنسبة ضئيلة فى تحقيق قدر من الرضا النفسى، على الأقل عند قطاع من الشباب مفتون بالكرة ومتعلق بها إلى حد بعيد، وهذا يساعد فى تعزز شرعية السلطة ولو بنسبة أقل ضآلة، أو هكذا يرى أهل الحكم دوما، خصوصا فى بلدنا، وأضرابها من البلدان التى وصل الأمر ببعضها أحيانا إلى استعمال المنتخب الوطنى فى تعزيز الولاء والانتماء وقدرة الحاكم على تحقيق إنجازات.
على التوازى، وفى اليوم نفسه، كان حضور السياسية القوى رمزيا ولفظيا وماديا، واضحا فى مبارة كرة القدم بين منتخبى الإمارات والسعودية فى تصفيات كأس الأمم الآسيوية وكأس العالم، من خلال انعكاس حرب «عاصفة الحزم» و«التحالف الإسلامى ضد الإرهاب» الذى يشارك فيه البلدان بقوة، على مجريات المباراة. فقد تصدرت صور قادة البلدين استاد «محمد بن زايد» وذهبت إليها الكاميرا غير مرة، بينما حرص المعلقون على القنوات الرياضية الإماراتية والسعودية، فى آن، على الربط بين المباراة والعلاقات السياسية الثنائية القوية حاليا بين البلدين، وأثر كل هذا على أداء اللاعبين فى الملعب، الذى سادته روح رياضية وأخوية ظاهرة، رغم أن المباراة كانت مهمة بالنسبة للمنتخب السعودى، ومصيرية بالنسبة للمنتخب الإماراتى، بما جعل كل منهما حريصا على الفوز والتأهل.
فى عام 1969 كانت مباراة فاصلة فى تصفيات كأس العالم سببا لقيام حرب بين هندوراس والسلفادور، وقبل ست سنوات تقريبا كان كرة القدم سببا فى توتر العلاقات بين مصر والجزائر، اللعبة السخيفة التى لعبها الجهاز الأمنى أيام حكم مبارك من أجل تفريغ شحنة الغضب الشديدة من خروج منتخبنا الوطنى الرائع أمام الجزائر فى تصفية النسخة السابقة من كأس العالم، وتبادلت صحف البلدين وإعلاميوهما الشتائم إلا من قلة عاقلة من الجانبين أشارت إلى التاريخ المشرف بين البلدين، سواء ما قامت به مصر من إرسال مدرسين وأطباء ومهندسين من أجل عمران الجزائر بعد رحل الفرنسيون مهزومين، وتدفع رواتبهم من الخزينة المصرية، علاوة على احتضان قادة الحركة الوطنية الجزائرية وتأييد مسلكهم ماديا ومعنويا. ويكفى الجزائر أنها أرسلت عددا وعدة وعتادا لمشاركتنا فى نصر أكتوبر المجيد.
هذا الحضور السياسى فى مباراة كرة قدم ليس جديدا، بل صار سمة ظاهرة، التقطها كتاب بعنوان الجوانب الجيوسياسية فى كرة القدم، Geopolitique du Football Bruxelle والذى صدر عن أحد المراكز الاستراتيجية الفرنسية، وشاركت فى إعداده نخبة من الباحثين، وحرره باسكال بونيفيسن، حيث تم التعامل مع هذه اللعبة على أنها متابعة الحرب بوسائل أخرى- وهذا هو الوصف الذى كان المنظر الاستراتيجى كلاوزفتش قد أطلقه على السياسةـ وأنها صارت الظاهرة الأكثر كونية فى عصر العولمة، إذ إنها تبدو أشمل من اقتصاد السوق وعملية الدمقرطة، وأنها صارت إحدى الأدوات القوية فى الدبلوماسية الدولية، حيث يمكن، فى رأى هؤلاء، أن تساهم فى توحيد شطرى كوريا أو دفع عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما يمكن لها أن تكون من وسائل تحقيق الوحدة الوطنية فى البلاد متعددة الأعراق واللغات والديانات، حيث تتضافر مختلف الجماعات حول المنتخب الوطنى، الذى يعد رمزا تعلق عليه الأمة بعض آمالها، خاصة إذا كان يضم تحت لوائه لاعبين ينتمون إلى هذه الجماعات.
وقبل ربع قرن، وأثناء بطولة كأس العالم 1990، قرأت مقالا للروائى الكبير عبدالحكيم قاسم عنوانه «ميلا أيها الكاميرونى» شبه فيه هذا اللاعب الأفريقى الفذ بسبارتكوس محرر العبيد، وتابعت بعض ما كتبه الروائى والناقد الإيطالى الكبير أمبرتو إيكو الذى ألقى عدة محاضرات حول اللعبة، حيث رآها علامة من العلامات التى ترتكز على الكذب، لأنها رغم زيفها وسطحيتها تؤخذ على محمل الجد، وتكون لها أحيانا عواقب خطيرة، حين تحدد بعض مسارات التنافس الاجتماعى والسياسى والاقتصادى والثقافى والإعلامى، وترتبط بالقوة والهوية. وفى كتابيه «أساطير» و«لذة النص» بدا الكاتب والناقد الفرنسى شغوفا بالرياضة وفلسفتها العميقة، والعلامات والشفرات المختلفة الكامنة فيها. كان الروائى والشاعر والسينمائى بيير باولو بازولينى، يقول: لو لم أصبح شاعرا لكرست حياتى لكرة القدم، وطالما تحدث نجيب محفوظ عن أنه كان لاعب كرة موهوبا فى صباه، وكان ينظر إليها باعتبارها أشمل من أن تكون مجرد لعبة.
وخلال العام الماضى، صدرت رواية فى القاهرة لكاتب سياسى مصرى هو أحمد الصاوى، توسل فيها بلعبة كرة القدم ليطلق الخيال حول حدث سياسى كبير قد يقع حين تجد مصر نفسها فى يوم من الأيام فى مواجهة إسرائيل من أجل العبور إلى المونديال، ليتخذ من هذا الحدث فرصة لسرد التأثير النفسى والاجتماعى والسياسى على اللاعبين والمدربين والجمهور المتحمس للعبة، أى موقف كل هؤلاء من التطبيع مع إسرائيل عبر كرة القدم.
ووصل الأمر بالبعض إلى أن يقول إن جوهر كرة القدم يتشابه، بل يتطابق مع جوهر السياسة، لأن كليهما قائم على المنافسة والصراع، وإن بطولة الكأس تشبه الصراع الصفرى فى السياسة، الذى يعنى أن يأخذ طرف كل شىء ويحرم خصمه من أى شىء، أما بطولة الدورى، فتتطابق مع التنافس المتعادل أو متعدد الأقطاب، وإن إدارة المباراة تشبه إدارة العلاقات الدولية، أو حتى إدارة الحروب، التى تعتمد على دراسة نقاط قوة وضعف الخصم قبل المعركة، ثم العمل على شل حركته، لهزيمته فى النهاية.
قبل سبع سنوات، كتبت مقالا حللت فيه القيم الاجتماعية والسياسية الكامنة فى بطولة الدورى العام، وقلت إنها كانت مليئة بالعبر والعظات، وقدمت لنا لوحة عريضة مرصعة بمشاهد عدة يمكنها إن تجاورت أو توازت أو حتى تتابعت أن تشرح لنا، وتكشف لنا جانبا من الخصال الاجتماعية للمصريين فى هذه اللحظة من تاريخهم المديد، ومنها نشر ثقافة اعتباطية وعشوائية تركن إلى أن الفائز فريق محظوظ، ويهزم خصومه عن طريق الصدفة، وأن هناك توطؤا لصالحه، وهناك مؤامرة على منافسيه. ومنها أيضا تصاعد «الغل» الذى يواجه به المتفوق، وهى ظاهرة طالما انقبض لها قلب فيلسوفنا الكبير زكى نجيب محمود، وهو يقر بأن الناس فى بلادى لا تريد أن تتبع خطى المتقدمين والفائقين، بل تعمل بكل ما وسعها من جهد فى سبيل شدهم إلى الوراء كى يسيروا مع القطيع. وهناك أيضا الانحياز إلى التحايل على حساب الحقائق الجلية، ومنها أن المثابر ينتصر ولو بعد حين، وأن الإيمان بالتراكم يدفعنا إلى الأمام.
عموما، فإن التصورات التى تربط السياسة بكرة القدم تنبع من ثلاثة أشياء:
الأول أن العملية السياسية تبدو معقدة للغاية، نظرا لتداخلها الشديد مع حقول معرفية ونشاطات إنسانية أخرى، ويأتى التحليل ليبسطها عبر نماذج تأخذ أشكالا مختلفة تتراوح بين الكلام اللفظى الصرف والحسابات الرياضية الدقيقة.
والثانى أنها عملية تتسم بالشمول، إلى حد كبير، إذ إن كل النشاطات البشرية قابلة للتسييس، عندما تدخل فى صميم اهتمامات السلطة السياسية. والثالث هو أن كرة القدم لم تعد لعبة، بل عملية اجتماعية واقتصادية وسياسية وفنية متكاملة، إلى جانب كونها مباراة رياضية.