x

عمار علي حسن «البديل الوطنى المدنى».. مهلاً أيها الشتامون عمار علي حسن الخميس 17-03-2016 21:24


قبل اختراع الهاتف المحمول كان عامل التحويلة فى مصلحة «السكة الحديد» يجرى وهو يسابق الريح لمسافة كافية، قابضاً على راية حمراء، ليلوح بها فى وجه سائق القطار المندفع بسرعة فينبهه إلى أن هناك خطراً ينتظره، قد يكون ناجماً عن سرقة أحد القضبان، أو سقوط شجرة عليها، فيمنع بهذا وقوع حادث مروع تزهق فيه الأرواح، ويعطب القطار، وتعطل حركة النقل ساعات طويلة.

لو تعامل المتسرعون مع إعلان حركة «البديل الوطنى المدنى» على أنها تعبير عن إرادة أناس قد قرروا أن يلعبوا دور عامل التحويلة هذا، لكفوا عن جلدهم على هذا النحو، وقد يصمت العقلاء منهم إن ارتفعوا بإدراكها على أنها «جماعة ضغط» يؤمن القائمون عليها بأن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، وأن انفراد شخص أو مؤسسة أو تنظيم أو جهة بالقرارات، على النحو الذى نعيشه، يشكل خطرا داهما على البلاد، وسيتفهمها الحكماء أكثر حين يحيلونها إلى قاعدة أعمق وأرسخ تقول إن «التدافع» مهم فى المجتمع والسياسة، وهو الذى يخلق نوعا من التوازن فى المجال العام، وقد يساهم فى رد أو ردع كل من تغريه السلطة بأن يفعل ما يشاء، فى أى وقت شاء، وفى هذا هلاك محقق. وقد يسارع المتحمسون الإيجابيون إلى الانضمام إليها حين يدركون أنها تطمح إلى تعدى كل هذا وتريد أن تشق مسارا عفيا فى الحياة السياسية، برفع راية يمكن أن يلتف حولها كل الذين يرفضون استسلام بلدنا للخيار الواحد، ويرون أن للمعارضة دورا وطنيا مهما فى أى نظام سياسى طبيعى، يؤمن بالتعددية، وتداول السلطة، وفتح الباب أمام تمثيل مختلف مصالح الفئات والشرائح الاجتماعية والقوى السياسية، ويفهمون أن هؤلاء ينطلقون على أساس متين من الوطنية والسلمية والعلنية، والتسليم بالشرعية السياسية والمشروعية القانونية، والاقتناع بأن الديمقراطية لا يمكن أن تقف عند حد التمثيل عبر انتخاب الرئيس والبرلمان والاستفتاء على الدستور، إنما تحتاج إلى التشارك الذى يعنى هنا إطلاق طاقات الروابط والاتحادات والنقابات وقوى المجتمع المدنى، والحركة الطلابية، والتنظيمات والهيئات الاجتماعية لتساهم فى صناعة السياسة بما يحييها بعد موت، ويعيدها بعد غياب، ويفتح المجال العام، وينفخ فى أوصال الرأى العام ليكون حاضرا طيلة الوقت، يتابع ويراقب ويحاسب ويغير إن دعت الضرورة إلى ذلك.

لكن كل هذه المعانى ضاعت فى التسرع الأهوج، أو فى تعبير وتدبير المغرضين الذين يريدون إعادة إنتاج الماضى بقتل البدائل المدنية فى حياتنا، مثلما فعل نظام مبارك، بغية توسيع الطريق أمام الوريث، فسقطت الدولة ثمرة عطنة فى حجر جماعة الإخوان، وهو احتمال سيقوم إن أصرت السلطة وأتباعها على محاربة كل من يريد تجميع وتعزيز القوى المدنية لتشكل بديلا حقيقيا، وحصار جميع من يؤمنون بأن إدارة المجتمعات المدنية، التى تقوم على التنوع والاختلاف فى الوسائل، تختلف عن إدارة المعسكرات أو الجهات النظامية.

إن ما يدعو للأسف أنه كلما ظهرت حركة اجتماعية أو سياسية تريد إصلاح الحال والمآل انهالت عليها السهام من أذرع السلطة وأبواقها وكتبتها، الذين تتعالى نبرتهم بالسخرية والتهكم على كل من يرون فى أنفسهم القدرة على أن يلقوا حجراً فى المياه الراكدة. ويترافق معها نقد آخرين مدفوعين بوجهات نظر مغايرة، هم فى تبنيها أحرار، وليس على من يتصدون لقيادة تلك الحركات سوى تفهم دوافعهم، والتعامل معها على محمل الجد، وعدم إنكارها، ومناقشتها بصبر وروية وإمعان.

ابتداء، لنعد بالذاكرة إلى الوراء، لنقص على الشاتمين والشامتين طرفاً مما جرى لعلهم يتذكرون ويفكرون ويتدبرون:

1 ـ حين ظهرت حركة «كفاية» قال أهل الحكم: دعهم يمرحوا، إنهم مجموعة من الأفندية المشغولين بأمور لا تهم شعبا مربوطا بلقمة العيش، ولا يرى ما هو أبعد منها.

2 ـ حين ظهرت «الجمعية الوطنية للتغيير» قالت السلطة: من هؤلاء الذين يريدون تغيير حكم راسخ الأقدام، حسداً من عند أنفسهم، أو وهماً سيتحطم على صخرة نظام ثابت الأركان، واثق الخطوة يمشى ملكاً.

3 ـ حين أعلن مائة شخصية تكوين ما سمى «البرلمان الشعبى»، الذى كنت أحد أعضائه، ردا على برلمان مبارك المزور تماما فى 2010، قال عنهم الرئيس المخلوع قولته الشهيرة: «خليهم يتسلوا».

4 ـ حين دعا شباب إلى التظاهر يوم 25 يناير عبر موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» انبرت أقلام كتبة السلطة لتقول عنهم: إنهم شباب غرير يغضب فى العالم الافتراضى، ولن ينزل إلى الشارع أبدا، بل وصل الأمر بأحد الكتاب أن سطَّر ساخرا يوم انطلاق الثورة: «هى الثورة الساعة كام يا شباب؟».

5 ـ لمَّا تكونت «جبهة الإنقاذ» رداً على الإعلان الدستورى الذى أعطى صلاحيات إلهية للرئيس الإخوانى المعزول محمد مرسى، وصفتها الجماعة، عبر ميليشياتها الإلكترونية بأنها «جبهة الخراب» واعتبرت المشاركين فيها «مجموعة من العلمانيين الفشلة الذين يكرههم الشعب».

6 ـ ما إن بدأت حركة «تمرد» فى جمع توقيعات الناس ضد بقاء مرسى فى الحكم، قال عنهم الإخوان: إنهم مجموعة من المراهقين الخائبين. ثم أطلقوا فى وجوههم ما سموها «تجرد»، فتجردوا هم من السلطة التى حازوها سريعا، فذهبت عنهم أسرع مما تصوروا.

وجاء من أعلنوا قيام «البديل الوطنى المدنى»، وهو غير كل ما سبق فى التصور والهدف والغاية والتعبير والتدبير، فتكررت بشأنهم الأوصاف والأقوال نفسها، وكأن أحداً لم يتعلم الدرس مما جرى، ليس فى الزمن البعيد، لكن خلال سنوات خلت، يمكن عدها على أصابع اليد.

وانقسم الشتامون إلى فرق، بعضها ينكر على أى أحد أن يرفع صوته بقول «لا» حيال السياسات السارية والجارية، وكأنها مطلقة الصواب، وبعضها يخشى على مواقعه ومنافعه فيريد تثبيت الوضع الراهن بأى ثمن، حتى لو كان نتيجة هذا تحقيق خسارة فادحة لبلدنا، وبعضها مشدود إلى الاستسلام للأمر الواقع، ويرى أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، وبعضها لا يعتقد أن مصر فى حاجة الآن إلى وجود مسارات أخرى، متوهما أن فى هذا شقا للصف، وتشتيتا للجهد.

اعتقد البعض خطأ أن «البديل الوطنى المدنى» هو تعبير عن مشكلة مع رئيس الجمهورية، بشخصه وخلفيته المهنية وتصوراته الذاتية، مع أن القائمين على هذا البديل قد أعلنوا، منذ اللحظة الأولى، أن المشكلة ليست هى «من يَحكم؟» لكنها هى «كيف نُحكم؟»، وأن ما يشغلهم هو طرح سياسات بديلة فى الاقتصاد، خاصة فى الإنتاج والتشغيل والاستثمار والتصنيع والزراعة والتشييد والتمويل، وفى الأمن عبر رؤى ترمى إلى إصلاح جهاز الأمن، وفى العدالة الاجتماعية من خلال صياغة إجراءات لتحقيقها، وفى السياسة بغية تعزيز الانتقال إلى الديمقراطية، وفى التعليم والثقافة وتحسين الأحوال الاجتماعية وشروط العيش، وفى السياسة الخارجية بما يعزز دور مصر فى الإقليم والعالم. كما بين هؤلاء أنهم لا يطرحون أنفسهم طرفاً فى وجه طرف إنما هم طرف واحد ضمن أطراف، أى أنهم «بديل مع» وليسوا «بديل عن»، وذلك من منطلق إيمانهم الجازم بحق الآخرين فى التواجد سواء داخل أحزاب سياسية أخرى ممثلة فى البرلمان أو خارجه، وحركات اجتماعية مختلفة سواء القائمة حاليا أو تلك التى ستظهر مستقبلا. وظل الشتامون مصرين على ربط هذا البديل بشخص واحد، مع أنه نتاج نقاش دام عدة أشهر شاركت فيه أحزاب سياسية وشخصيات عامة وخبراء وباحثون وسياسيون مستقلون. كما تعامل هؤلاء مع ما أعلن، وهو مجرد «نداء» أو «بادرة» على أنه «مبادرة» وأن الأمر سيقف عند هذا الحد. وكثيرون يطالبون الناس بأن تتحرك، ولا تكتفى بالكلام، فلما يستجيبون لهم ويتحركون، يقولون لهم بمنتهى الغرابة: ليس من حقكم أن تتحركوا.

فى كل الأحوال من حق المواطنين أن يصنعوا ما شاءوا من بدائل، وأن يسعوا إلى أن يكونوا رقماً فى المعادلة السياسية المطروحة، ويبذلوا قصارى جهدهم فى سبيل تحقيق الأهداف التى يصبون إليها، فإن نجحوا كان هذا مفيداً للوطن، وإن أخفقوا لأسباب عديدة، عرفناها من تجارب الماضى، فيكفيهم شرف المحاولة، والمهم أن يتعلم الناس من أخطائهم ولا ييأسوا أبداً.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية