تبدو جدية حركة حماس هذه المرة في تحسين صورتها في الاتجاه المصرى، وعلى غير لقاءات عديدة مرت بها مباحثات مسؤولى الحركة مع القيادة المصرية بشأن الموقف المتحفظ منها، فقد جاء اللقاء الأخير بين مسؤولين من حماس والمخابرات المصرية مرنا وفاعلا، باجراءات بدأت حماس في اتخاذها بالفعل ما يؤشر إلى عزمها الجدى على تغيير نهجها السياسى تجاه الأحداث الجارية في المنطقة العربية وبالذات علاقتها مع مصر .
التغيير في حد ذاته يتطلب الكثير من الجهد أي كان، فما بالنا بتغيير يتضمن الشكل والجوهر، بمعنى الانسلاخ عن فكرها العقائدى التابع للاخوان ليتوائم مع المرحلة الجديدة التي تسعى لتحقيق مكاسب فيها، ومن هنا فلا عجب أن تتسق هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة مع ما تقوم به على الأرض من إجراءات بدأتها بوضع لافتات تهدف إلى تقديم تطمينات لمصر، وإزالة اللوحات الضخمة التي كانت تتصدر شوارع غزة وتحمل صور أمير قطر أو الرئيس المعزول محمد مرسى وتعبر عن مسارها السياسى ووفائها وامتنانها لأصدقائها سواء في قطر أو تركيا، أو إزالتها لصور الرئيس المعزول محمد مرسى من مكاتبها ومؤسساتها وحتى نزع شعار الاخوان المسلمين أيضا الذي يعتبر السمة الأبرز المميزة لفكرهم الأيديولوجى رغم نفى الحركة في الوقت ذاته أن يكون لذلك علاقة باتفاق القاهرة، لذا كان من الطبيعى أن تبرر تصرفها معلقة بأن بعض الصور يتم تحديثها ولا تحمل أهدافا تتجاوز حدود مواكبة الأحداث. وهذا لا يعنى تنصل الحركة من المدرسة الفكرية للاخوان المسلمين التي تربوا على مبادئها ومعتقداتها، لكنها أيقنت أنها في مرحلة تعتبر نفسها في المقام الأول حركة تحرر فلسطينية حتى وإن كانت قراراتها نابعة من مؤسساتها الشورية والقيادية التابعة لفكر الجماعة .
لم يكن استبدال اللافتات هو المتغير الوحيد في توجهات حماس السياسية الجديدة، بل بدأت في شن حملة اعتقالات واسعة لعناصر الجماعات السلفية وتضييق الخناق عليها لمعرفة مصادر تمويلها وتسليحها وإحباط عملياتها، وقد جاء تعليق صورة كبيرة لجندى من كتائب عز الدين القسام يقف على خط فاصل موجها بندقيته نحو القدس وكتب خلفه «المقاومة لا توجه سلاحها إلى الخارج.. البوصلة نحو تحرير القدس» في أهم مفترقات غزة وفى الميدان الرئيسى وسط المدينة، لاثبات أنها حركة تحرر وطنى تقاتل داخل جغرافيا فلسطين وضد الاحتلال الاسرائيلى، فضلا عن أنها رسالة واضحة للقيادة المصرية وعربون مودة تؤكد بأن البندقية موجهة للعدو الاسرائيلى وليس ضد مصر، وأنها حرصة على موقفها القائم على الفصل التنظيمى مع جماعة الأخوان المسلمين وعدم التدخل في شؤون البلاد العربية، فما قامت به حماس هو خطوة أولى لاستعادة الثقة ورسالة رمزية لمصر، وإن كان مثل هذه الشعارات ربما لا تحقق الهدف الاستراتيجى، غير أنها تساعد في تخفيف الاحتقان وإزالة بعض الرواسب التي علقت بين الطرفين، كما أن الرسالة التي بعث بها الدكتور موسى أبومرزوق عضو المكتب السياسى للحركة قبل نحو أسبوعين للرئيس عباس وقيادة الحركة وتضمنت اعترافا صريحا بأن الرئيس عباس رئيسا لكل الفلسطينيين، إذ قال أبومرزوق أمام بعض قيادات حماس لوزير سابق «أنقل للرئيس محمود عباس وبلغه أنه رئيسا للشعب الفلسطينى ومهما كانت حركة حماس كبيرة إلا أنها تبقى جزء من الشعب الذي يرأسه الرئيس عباس»!! وهى نغمة جديدة على خطاب حماس خاصة بالنسبة للأمور المتعلقة بالرئيس عباس الذي طالما نالته انتقاداتها وهجومها الشديد على سياساته .
وعلى الرغم من أن تغيير اللافتات بالنسبة لحماس يجرى عادة في اتجاهين: الأول روتينى يتعلق بتحديث الصور من حين لآخر خاصة أن هذه الصور وضعت في مناسبات معينة وانتهت، والاتجاه الثانى لايصال الرسائل والأفكار والتواصل بالصورة مع الجماهير في الداخل والخارج، فإن تغيير الصور في هذا التوقيت جاء للاعلان عن بدئها مرحلة جديدة في توجهاتها السياسية أكثر وضوحا وحسما من ذى قبل، ومن ثم فأن الصورة التي تحمل إشارة عدم انحراف بوصلة السلاح، تحمل العديد من الإشارات والمعانى أهمها التأكيد على أولويات حماس بأنها حركة تحرر وطنى ومقاومة فلسطينية قبل أن تكون حركة عقائدية تنبع سياستها من منهجها الفكرى .
بادرة حماس لتثبت أنها لا تتدخل في الساحة المصرية المتهمة بها، خطوة مهمة على الطريق، لكن المطلوب من حماس أكثر من مجرد لافتات وتغيير شعارات، مطلوب منها تهيئة شارعها وقواعدها لتغييرات أوسع على عدة أصعدة لاسيما الإعلام، وإن كان المغزى من لافتها الجديدة رسالة موجهة لمصر بأن المقاومة لاتوجه سلاحها للخارج، والتأكيد على ثبات بوصلتها وعدم انحرافها عن تحرير فلسطين، فإن وضعها علم مصر داخل اللافتة للتأكيد على عمق مصر وأهميتها بأنه لا يمكن تجاهلها أو تورط الحركة في أي أحداث فيها له ثمن أيضا، فهو يحتاج إلى تطبيق عملى على أرض الواقع، ليس بتعهداتها أمام مصر بضبط الحدود فقط، ولكن أيضا بعدم تورطها في أي انتهاكات قد تحدث مستقبلا سواء كانت من عناصرها في كتائب القسام أو التنظيمات التي تتهم بمساندتها كأنصار بيت المقدس وغيرها في العمق المصرى .