لست سائحة.. ولكنى مواطنة عادية.. لم تعتد كثيرا أن تجوب شوارع وأزقة القاهرة التاريخية.. ولكن هكذا شاءت الظروف وسمحت لى، ربما لأكثر من أسبوع. أتجول في هذه الحوارى المحيطة بمنطقة الغورية.. الخان وما يلحق به من المناطق الأثرية الأخرى التي تعبق بتاريخ مصر وبجمالها المعمارى الذي تتدلى أحيانا بقاياه وهو أشبه بمناضل يتشبث بجسده الذي عاش لعقود طويلة بل قرون عديدة.
أتجول سيرا على أقدامى.. أتبادل الابتسامات وعبارات الترحيب من أبناء شعب وأهل تكتظ بهم الأزقة مثلما تكتظ ببضاعتهم وتجارتهم التي تبحث عن قرش يعيد لها الرواج والخيرات!!!! أتجول وأتحسر على تاريخ وطن يتفاخر بمجد لم يساهم في بنائه أو في الحفاظ عليه بل يعمل على طمسه وزواله...!!
كل خطوة.. كل شبر يعلن عن جريمة شنعاء يرتكبها في حق تاريخه.. مجده وتراثه.. جريمة مع سبق الإصرار تغتال هذا المسجد.. هذه الكنيسة... هذه الحرفة.. هذا الشارع.. هذا الفناء... هذه البوابة... هذا السبيل.. هذه الدار.. هذا البيت وهذا الدكان.
جريمة في وضح النهار نشارك فيها كلنا شعبا وحكومة.. ودولة تتجاهل تحت مسميات وحجج طفحنا مبرراتها لأسباب هذا الانفلات وهذا الإهمال الذي يشهد عليه هذا التاريخ الذي تبكى حجارته المتآكلة ماآل إليها من أبنائها الذين لم يصونوا هذا المجد إلا بهذه «الفشخرة» التي يتاجرون بها على كل منبر أو محفل دولى بانتمائهم وسلالتهم لهذه الدولة العريقة!!.
ولأن الحديث في هذه القضية أصبح ربما مملا للقارئ وللمسؤولين على حد سواء لأنه قتل بحثا وكلاما من ناس- قبلى- غيورين على تاريخهم مثلى إلا أننى ربما ما زال عندى بصيص من الأمل أن يتغير الحال ويصبح للكلام صدى.
لذا.. وفى هذا الإطار أردت أن «أدردش» عن فكرة ليست بجديدة وهى إحياء المبانى والمزارات التاريخية التي تزخر بها القاهرة وباقى المحافظات، وذلك عن طريق إنشاء مطاعم ومقاه ومحال وفنادق صغيرة Boutique hotels حول ساحات هذه المزارات وأحيانا داخلها- بمعنى العيش فيها وبها- بل أيضا السماح باستثمار هذه الأمكنة التاريخية في مجالات وأنشطة سياحية ترفيهية.. ثقافية وتجارية عديدة مثلما يحدث في كل دول ومدن العالم التاريخية.. فهكذا يعيش التاريخ.. وهكذا يحيا تراث الأجداد.. وهكذا يتم الحفاظ عليه من العبث والإهمال والفساد.. وهكذا يفيق من الركود ومن قسوة البلل والرطوبة التي تتسلل داخل أنسجة حجارته.. وهكذا يعم الرخاء على المجتمع ويزدهر الاقتصاد وتنمو السياحة ويبتهج الناس بين أجواء مفعمة بالأصالة والفخر بالأجداد... وهكذا تصبح الحياة أكثر إشراقا وأملا عندما تتنوع الاتجاهات بين العلم والدين والثقافة والترفيه.
إن الحفاظ على المعالم والمبانى الأثرية والقصور من خلال إحيائها بهذا الأسلوب وإعادة استخدامها هو أمر حيوى لمزيد من الفهم والاستيعاب للأجيال الجديدة بأهمية ومعنى التراث الذي يشكل هويته وجذوره بالإضافة إلى مزاياه من الجوانب البيئية والثقافية والاقتصادية... إن إعادة استخدام هذه المبانى أمر حتمى للحفاظ عليها حيث تصبح جزءا من البرنامج التدويرى للنسب التاريخية.. هذه المبانى القائمة عبر هذه الأزمنة موفرة للطاقة.. تم بناؤها بالطرق والخامات السليمة التي تسمح لها بالتهوية الطبيعية نتيجة لخامات البناء المستخدمة وعلاقتها بالفراغ الداخلى المدروس... التعديلات التي تحتاجها لكى تتواءم مع نظم رموز ومتطلبات البناء الحديث ليست أمرا مستحيلاوإنما تحتاج فقط إلى مهارات محترفة في هذا المجال.
إعادة استخدام المبانى الأثرية وإحياؤها من جديد هو أمر حيوى للحوار الثقافى بين أجيال فاقدة لمعانى الانتماء والأصول.. إن العيش فيها مرة أخرى يحقق هذا التفاعل بين الشعور بالمجد والفخر والمسؤولية تجاه هذه الثروة القيمة التي ينتمى إليها أبناء هذا الشعب ومن ثم يتم بناء مجتمع قوى مترابط فخور بجذوره.. مسؤول عن الحفاظ عليه وصيانته.. ناهيك عما سوف يتحقق من رواج اقتصادى تخلفه هذه الحالة المفعمة بالحيوية الجاذبة للسياحة والثقافة والفنون والعروض والمهرجانات والأنشطة والتسوق..
هذه الحالة التي تبهج النفوس وتحسن من مستوى المعيشة وتحول التركيز بعيدا عن هذه الاهتمامات المريضة التي تصيب الشباب بل والمجتمع ككل.
رؤية.. مجرد رؤية تحتاج ربما لإعادة النظر في هذا الركود.. وهذا الفكر المتحجر الذي يحتاج الخروج من الصندوق لآفاق أكثر اتساعا وبناء بدلا من«الولولة» على ما يضيع منا ومن تاريخنا كل يوم!!.