في أحد أيام ربيع عام 2011.. كنت على الهاتف أستمع إلى أحد المسؤولين المصريين عن ملف إفريقيا وهو يتحدث منفعلاً عما وصفه باحتمالات بتخلي الكونغو الديمقراطية -وهي واحدة من أهم دول حوض النيل، بالرغم من أن إسهامها في إيراد النيل الذي يصل إلى مصر يعد هامشيا- عن تعهداتها لمصر بالامتناع عن التوقيع على ما عُرف باتفاقية عنتيبي. ولمن لا يعلم، فإن اتفاقية عنتيبي تعد أول انتهاك فعلي للاتفاقيات الموقعة بين مصر ودول الحوض منذ القرن الـ19 وحتى خمسينيات القرن العشرين، والتي ضمنت لدولة المصب -بالتوافق مع القانون الدولي- حصة من المياه تبقيها على قيد الحياة.
المسؤول كان في قمة الانفعال -وله الحق- فالتطور المحتمل كان خطيراً، وخاصة أنه جاء بعد أيام من توقيع بوروندي على الاتفاقية في الأول من مارس/آذار من العام 2011، وذلك بعد امتناع ما يقرب من العام ونصف العام منذ إبرام الاتفاقية. فتوقيع الكونجو الديمقراطية كان يمكن أن يصل بعدد دول حوض النيل الموقعة إلى سبع دول، وهى التي كان يكفيها ست فقط لتحقيق أغلبية تفتح الباب أمام برلماناتها لإقرار الاتفاقية لكى تصبح سارية.
وبالرغم من أن انفعال المسؤول المصري -الذي عبر عنه بكلمات قاسية من الصعب إيرادها في المقال- كان مبرراً، إلا أنني أكدت له أن هذا التطور الذي ينبئ بعواقب وخيمة كان يجب أن يكون متوقعاً، كما كانت له مقدماته، وهو ما استنكره المسؤول بطبيعة الحال..
..في تلك الحظات عادت بي الذاكرة لسنوات عشتها في الكونغو الديمقراطية
(1999-2002) أثناء قيامي بتغطية الحرب الضروس في تلك الدولة العملاقة جغرافيا، وهي الحرب التي كانت مزيجاً بين الحرب الأهلية والإقليمية والدولية. قبل وصولي الكونغو بعامين ونصف العام، وتحديداً في العام 1996 كان لوران كابيلا قد أسقط للتو نظام الطاغية موبوتو سيسيسكو، لكي يبدأ نظاماً ديكتاتوريا جديداً، وإن كان بعلاقات إقليمية مختلفة تماماً عن العلاقات التي ميزت سابقه. من أبرز التغيرات في العلاقات الإقليمية التي أتى بها كابيلا تلك الرغبة والسعي الشديدان للتقارب مع مصر، والسعي العملي الحثيث لإنهاء العلاقات الخاصة مع إسرائيل التي بلغت ذروتها في زمن سيسيسكو.
ومن دون الدخول في تفاصيل، فإن التغير في مواقف كينشاسا يبدو كالتالي:
على الصعيد الإسرائيلي: السعي العملي لكسر احتكار شركات وشخصيات إسرائيلية لتجارة الألماس، الثروة الطبيعية الرئيسية في الكونغو، واستخدام منافسيهم التقليديين في هذا المجال من اللبنانيين المقيمين في الكونغو، خفض حجم البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية إلى الحد الإدني في تاريخ العلاقات بين البلدين، بالإضافة إلى مظاهر أخرى لتحجيم العلاقات بين البلدين.
على الصعيد المصرى: تنشيط الاتصالات بشكل كبير بهدف التعاون والتنسيق، الإلحاح في طلب الدعم العسكري خلال الحرب الأهلية، وخاصة في مجال التدريب العسكري، الإلحاح على مصر للحضور اقتصاديًّا في الكونغو، الإلحاح في طلب عقد اللجنة المشتركة بين البلدين، والتي لم تنعقد في ذلك الوقت منذ العام 1994.
وبالرغم من تقزم البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية في زمن كابيلا الأب قياساً بالبعثة الدبلوماسية المصرية الضخمة، إلا أن نشاط وفاعلية الأولى بقيادة سفيرة نشطة مثل «مدام جاد» لم تكن تقارن بالثانية الضخمة التي كان جميع أعضائها تقريباً يعتبرون فترة خدمتهم في الكونغو عقوبة لهم، وهو الإحساس شبه العام الذي كان -وما زال- يعانيه الدبلوماسيون المصريون، والذي يعود إلى غياب اهتمام حقيقي وعملي للقاهرة بتعزيز مواقعها إفريقيًّا جنوب الصحراء.
وقد انعكس ذلك -ضمن ما انعكس- في تلك الفترة بعدم اكتراث القاهرة بكافة مطالب كينشاسا، بما في ذلك عقد اللجنة المشتركة بين البلدين منذ العام 1994 وحتى عام وصولي إلى الكونغو في العام 1999 وهي المفترض أن تنعقد سنويًّا.
بعد شهور من استقراري في الكونغو.. صادفت أحد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الكونغولية وعلى وجهه علامات البِشر، حيث قال لي إنهم تلقوا أخيراً ردًّا من القاهرة بالمواقفة مبدئيًّا على عقد اللجنة المشتركة، على أن يقوم الجانب الكونغولي بإرسال مشروعات الاتفاقيات المشتركة التي يرغبون في التوقيع عليها خلال انعقاد اللجنة.
لم يدعني المسؤول الكونغولي أتفاعل مع فرحته، حيث استطرد قائلاً بفضول ممزوج بالقلق: «العجيب يا سيد يحيى أنه بعد وصول الرد المصري بيومين طلبت»مدام جاد«سفيرة إسرائيل اجتماعاً معي، حيث قالت لي إنهم علموا في إسرائيل بالرد المصري، وأردفت: لا داعي لتضييع الوقت مع المصريين فهم غير جادّين». وأضاف الرجل: «ليس مهمًّا كيف عرفت»مدام جاد«بالرد المصرى، ولكن السؤال هو: ما مدى صحة ما قالته عن جدية القاهرة؟».
بالطبع، أكدتُ له أنه لا يجب أن يلتفت لما قالته «مدام جاد»، حيث إن ما قالته يتفق مع مهمتها كسفيرة لدولة إسرائيل، وهو ما وافق عليه المسؤول الكونغولي.
لأسابيع غبت عن كينشاسا، حيث رحلت إلى إقليم الإكواتور (الإقليم الاستوائي) الذي كان قطاعه مشتعلاً بالمعارك. بعد أيام من عودتي للعاصمة كينشاسا التقيت المسؤول الكونغولي الذي بدا حزيناً، حيث بادرني قائلاً: «هل تتذكر ما قالته لي سفيرة إسرائيل؟». لم يترك لي المسؤول فرصة للإجابة، حيث قال: «يبدو أن ما قالته»مدام جاد«كان صحيحاً».
شعرت بقلبي يخفق بشدة، فما الذي صدر منا -نحن المصريين- لكي يتحقق ما قالته مدام جاد؟ كانت ثواني، هي تلك التي فصلت بين المقدمة التي ساقها الرجل وبين إجابته على السؤال الذي حيرني: ماذا فعلنا؟
ببساطة كان الرد المصري على الجانب الكونغولي الذي بعث بـ17 مشروعاً اتفاقية تعاون مشترك تغطي جميع مجالات التعاون تقريبا كالتالي:
«برجاء ترجمة مشاريع اتفاقيات التعاون من الفرنسية للإنجليزية».
نعم، ما قرأته للتو -عزيزي القارئ- كان هو رد القاهرة على كينشاسا! واستطرد الرجل قائلا: «لقد التحقت منذ سنوات ببرامج تدريب في المعهد الدبلوماسي التابع للخارجية المصرية وتعرفت على كوادر رفيعة المستوى في الخارجية ممن تتميز فرنسيتهم على فرنسيتي التي تعتبر لغتي الأم، وبالتالي عندما نتلقى مثل هذا الرد بطلب ترجمة مشروعات التعاون إلى الإنجليزية، فإن ذلك لا يعني سوى أن القاهرة تتعامل معنا بخفة، ومن أن ما قالته مدام جاد كان سليماً.. أنتم المصريين غير جادين معنا».
ومن دون مبالغة أحسست في تلك اللحظات بحزن هائل ممزوج بغضب عارم على مثل هذا الهزل الذي يدفعنا للتعامل مع دولة بأهمية الكونغو على كافة الأصعدة، وأهمها صعيد المياه -باعتبارها دولة من دول حوض النيل- بهذه الخفة وعدم المسؤولية. الغريب، أني نشرت هذه القصة كما حدثت في العام 2000 في صحيفة الأهرام المصرية -وهي التي تحرص جميع الوزارات على قراءة المنشور بها كل منها فيما يخصها- إلا أن أحداً من الخارجية أو أي جهة أخرى رد على ما نشر سواء بالتأكيد وشرح الأسباب، أو حتى بالتكذيب.
جرت تلك الأحداث في نهاية العام 1999 واحتاج الأمر -بعد ذلك الرد اللامسؤول- إلى عامين ونصف العام لكي تعقد اللجنة المشتركة، كانت أموراً كثيرة قد تغيرت في الكونغو، وأهمها أن كينشاسا بدأت تغير بوصلتها مرة أخرى في اتجاه الدولة التي تبدي اهتماماً حقيقيًّا نحوها، ألا وهي إسرائيل، وقد تزايد هذا التوجه لكينشاسا بعد اغتيال الرئيس لوران كابيلا وتولي ابنه جوزيف من بعده.
في لحظات استعدتُ تلك الذكريات المريرة أثناء الحديث الهاتفي مع ذلك المسؤول المصري الذي وصف خلاله احتمالات توقيع الكونجو على الاتفاق الإطارى لعينتيبى بالخيانة لمصر. بعدما فرغ المسؤول من صب جام غضبه على الكونجو، اكتفيت بأن أعدت على مسامعه مع سطرته للتو في المقال مع تفاصيل أخرى لا يصح أن تعلن على الملأ مراعاة لأمن قومي مصري، ولم أستغرب الرجل عندما لاذ بالصمت؛ فقبل أن نطالب الآخرين بالوفاء لنا، ينبغي أن نكون أوفياء لأنفسنا أولاً.
إلا أن تلك لم تكن نهاية المأساة التي نسجناها لأنفسنا بدأب شديد على مدار سنوات فيما يتعلق بمياه النيل..