x

يحيى غانم سد«النهضة».. خطيئة النفس في حق النفس! 2/6 يحيى غانم الجمعة 18-03-2016 18:46


القصة غير المروية لبيع مبارك الصومال لإثيوبيا مجاناً؟

أختلف مع جميع من انتقدوا مقولة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي: «ليس بالنوايا الحسنة تدار الدول». أتفق معه في قوله هذا، حتى وإن اختلفت مع العديد من سياساته، فيما يتعلق بأسلوب إدارة الدولة، وهو الاختلاف الصحي الذي -للأسف- لا يطيقه رجال الرئيس. وبالرغم من اتفاقي مع مقولة الرئيس المصري تلك، إلا أنني أتحفظ على مقامها، حيث إنه أطلقها في معرض الحديث على الشأن الداخلي، وكان أولى به أن يطبق قوله الصحيح على الشأن الخارجي، وخاصة فيما يتعلق بقضية مياه النيل مع إثيوبيا، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

الشاهد -وهو الأهم- عندما يتكرر حسن النوايا في الشأن الخارجي، وخاصة في قضية حياة أو موت مثل مياه النيل، جالبة في كل مرة كارثة، فإنه يحق لنا أن نشك في كونها إهمالاً جسيماً يرقى في بعض الأحيان إلى خيانة عظمي للذات، وهو الافتراض الأفضل نسبيًّا من الحديث عن سوء النوايا..

وقد طرحنا في المقال السابق خطيئة مسؤولين مصريين بأن دفعوا دول حوض النيل دفعاً إلى الاصطفاف على مائدة تفاوض جماعي على ما بدا تعاوناً إيجابيًّا لتنمية موارد النهر وتعظيم الاستفادة منه، في حين أن الهدف النهائي كان التفاوض على حصة مصر من مياه النيل، وهو ما تنطبق عليه مقولة الرئيس عبدالفتاح السيسي: «ليس بالنوايا الحسنة تدار الدول»، هذا إن افترضنا النوايا الحسنة فيما كان. وفي هذا المقام سنطرح نماذج أخرى لقرارات كارثية لمن يوصفون بالمسؤولين، وهي النماذج التي تطرح أسئلة ينبغي الإجابة عليها في حال كنا مخلصين للخروج من الزاوية التي حشرنا أنفسنا بها، ونكاد نفرط في حقوق الأجيال القادمة بسببها..

الموقف الأول: بيع الصومال.. مجاناً!

في الرابع من يناير/كانون الثاني من العام 2007 استقبل الرئيس الأسبق حسني مبارك وزير خارجية إثيوبيا «سيوم ميسفين» الذي وصل إلى القاهرة لهدف محدد ووحيد، ألا وهو الحصول على موافقة من مصر على قيام بلاده بالتدخل العسكري في الصومال، وهو التعبير المهذب للغزو. وقد يسأل البعض: لماذا تسعى أديس أبابا للحصول على موافقة مصر على غزو الصومال؟

والإجابة بسيطة، وهي أن مصر كانت حتى تلك اللحظة تتمتع بنفوذ سياسيي وأصول بشرية صومالية مقدرة تدفع أي قوة في المنطقة تفكر في الغزو إلى أن تحصل على الإذن والأمان من مصر. ولا شك في أن وزير خارجية إثيوبيا وهو في الطريق من أديس أبابا إلى القاهرة كان يبحث الخيارات فيما يتعلق بما يمكن لبلاده أن تقدمه إلى مصر -في قضية مياه النيل- في مقابل سماح الأخيرة لأديس أبابا بأن تتدخل عسكريًّا في الصومال، الذي دائماً ما نظر إليه حكام إثيوبيا كعدو تاريخي. ولا شك في أن الرجل كان قد استقر مع قيادته على أثمان تدفعها بلاده لمصر على صعيد أزمة المياه المفتعلة من جانبهم نظير تحقيق الهدف الإستراتيجي الإثيوبي بالتدخل في الصومال وترتيبه من الداخل بما يضمن مصالح أديس أبابا.

على الجانب المصرى، استعدت الإدارة المسئولة عن ملف المياه -في وزارة سيادية مهمة- بجلوس ممثلها مع الرئيس مبارك لإطلاعه على خطورة طلب إثيوبيا وأبعاد التدخل وتأثيراته على موازين القوى في شرق إفريقيا وعلى نفوذ مصر بها. في الوقت ذاته، وضعت تلك الإدارة المهمة في هذه الوزارة السيادية الثمن المناسب في مقابل منح مصر موافقة محدودة زمنيًّا وجغرافيًّا لإثيوبيا، وكان المقابل هو تراجع إثيوبيا عن المواصفات الجائرة لسد الحدود -الذي أعيد تسميته لاحقاً باسم النهضة- التي تهدد مصر بالجفاف. ملحوظة: المواصفات الجائرة لسد الحدود في ذلك الوقت لم تصل إلى نصف المواصفات القاتلة التي وصل لها سد النهضة حاليًّا.

في تلك الظروف التي سال لعابها لغزو الصومال، كانت إثيوبيا على استعداد كي تلبي مطلب مصر وأن تكون تلبيتها مكتوبة وليست مجرد شفوية (من قبيل حسن النوايا الذي نفاه الرئيس السيسي، والذي لا محل له في العلاقات بين الدول).

الشاهد أن وزير الخارجية سيوم ميسفين خرج من الاجتماع بالرئيس حسني مبارك، وقد طفح البِشر على وجهه بشكل مذهل، حتى أن من رآه أقسم لي أن الرجل -بخلاف كل الأعراف الدبلوماسية- تحدث للحضور خارج غرفة الاجتماع مهللا وهو يقول: «لم يخطر في بالنا أن يمنحنا الرئيس المصري العظيم مبارك موافقته من دون أية شروط». نعم، فما قرأته هو بالضبط ما حدث، وليس من مصلحة الوزير الإثيوبي -الذي خرج عن كل الأعراف الديبلوماسية- أن يفتئت على الرئيس المصري الأسبق.

أتذكر بأسى مدى الكآبة التي اعتلت وجه ذلك المسؤول الرائع -وهو واحد من كثر- عن الملف وهو يكاد يبكي قائلا: «لماذا؟ وكيف؟ وما الهدف؟ وكيف يتم تجاهل كل ما قدمناه للرئيس؟ المعلومات التي لدينا تؤكد أن إثيوبيا كانت ستقدم تنازلات مكتوبة فيما يتعلق بسدها. للحظات خيل لي أن الرجل يكاد يقطع شرايين معصمه يأساً وحزناً؛ فقد كان وزملاءه ينتظرون ثمرة جهدهم لصالح الوطن وأجياله القادمة.

الأسئلة التي طرحها ذلك المسؤول -الذي هو بحق مسؤول ويستحق تلك الصفة- لم يجب عليها أحد، كما أشك في أن أحداً جرؤ على أن يطرحها على الرئيس الأسبق، بما في ذلك الوزير في تلك الوزارة السيادية التي عمل بها المسؤول الرائع عن هذا الملف.

نعم، كان الغزو الإثيوبي للصومال مطلباً أمريكيًّا، ولكن أليست أمريكا الحليفة لإثيوبيا هي نفس أميركا التي كان كل من الرئيس الأسبق مبارك والمجلس العسكري من بعده والرئيس الأسبق محمد مرسي الذي خلفه والرئيس المؤقت عدلي منصور الذي تلاه، وصولاً إلى الرئيس السيسي يزعمون أنها أحلف حلفائنا؟ ألم يكن أولى بمبارك أن يضع قضية مخططات إثيوبيا المائية التي تهدد وطنه وجوديًّا كأولوية قصوى مع حليفه الأميركي؟ أم أن ذلك كان يمكن أن يكون على حساب أولويات أخرى ليست بالتأكيد في صالح الوطن، كالبقاء في السلطة أو توريثها مثلاً؟

إذا كان رد الرئيس الأسبق من منطلق «حسن النوايا»، فهل ردت إثيوبيا التحية بأحسن منها، أو مثلها أو حتى أقل منها؟ بالطبع لا، فلا مجال لحسن النوايا في العلاقات بين الدول، هذا إذا كان ما حدث من منطلق حسن النوايا بالأساس.

قضية النيل ومياهه هي أهم قضية مصيرية لمصر؛ ولذا فإن العديد من الوزارات والأجهزة تتولاها وتشارك في صنع قراراتها. ولا شك في أن وزارة الدفاع تأتي على رأس هذه الجهات والتي لها اليد العليا في القضية، طبقا لطبائع الأمور في مصر، وترجمة لمقولات كبار قادتها بأنها الدرع الحامية لمصر في كل مجالات الأمن القومي، ولا أظن أن هناك بعد مياه النيل أمناً قوميًّا يستأهل الحديث عنه.

والسؤال هو: أين كانت وزارة الدفاع من موقف الرئيس الأسبق؟ وهل تمت مراجعة الرئيس في موقفه شديد الغرابة، أم أن مصر كان -وما زال- بها حاكم وليس رئيساً؟
والفارق هائل بين الاثنين؛ فالحاكم يسئل، أما الرئيس، فهو موظف عام يجب طرح الأسئلة عليه، وتجب عليه الإجابة، ناهيك عن مساءلته إذا ما وجب ذلك.

وحيث إن الشيء بالشيء يذكر، وحيث إننا وصلنا إلى المساءلة، فإلى أسئلة أخرى، إجابتها يمكن أن تخرجنا من أزمة سد النهضة التي يظن مسؤولونا أن تفادي آثاره المدمرة على مستقبلهم كأشخاص، أهم بكثير من تفادي آثاره المدمرة على مستقبل وطن، وبالتالي فهم يهوّنون منه تارة، ويطلقون ما يُسموا «خبراء إستراتيجيون» يمنّون المصريين بأوهام من عينة أن السد سينهار من دون أي تدخل من مصر تارة أخرى. فإلى مزيد من الأسئلة وأجوبتها..

المقال ينشر نقلا عن موقع هافينغتون بوست عربي

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية