تتباعد المسافات لكن الشوق واحد، والشعور ثابت لا يتبدل، مهما تفرقت السبل بأطراف القصة، ويظل ما بينها أقوى من وصال، وأقرب من حبل الوريد، هي قصة حب نشأت في أسمى معانيها، لا تغيرها أزمات، ولا تبدلها الظروف، باقية حتى لو غاب أبطالها، أو ابتعدوا، أو حتى رحلوا، قصة ارتباط تدفع دابة أحيانًا لرفع حافرها عن ولدها رحمة وخشية أن تصيبه، فما بالك ببشر؟ أم وأبنائها؟ وما بالك بمصير هذه المشاعر لو غاب أحدهم وأصابهم «وجع البعاد»؟
على بعد 25 كيلومتراً من زحام القاهرة، تقبع آلاف من الأمهات داخل أسوار سجن النساء بالقناطر الخيرية، اختلفت الأسباب التي ساقتهن إلى هناك، لكن اتفقت مشاعرهن نحو أبناء بطونهن، هو الحنين القاتل للأبناء، الذي لا يفرق بين ابن جاحد لا يزور أمه، أو آخر يشعر بالخجل من وجودها داخل السجن، أو حتى بار بها حريص على زيارتها، في كل الأحوال وجع قلوب الأمهات السجينات واحد. جميعهن يفصلهن عن حياتنا سور، لكن في النهاية هن أمهات، تجمع بينهن أمنيات محددة، الطهارة من الذنوب والخطايا، والنقاء من الدنس، أملًا في تحقيق الحلم الأكبر.. الجنة.
«المصرى اليوم» زارت سجن النساء بالقناطر، لمدة 3 ساعات، بمناسبة عيد الأم، وتحدثت مع عدد من السجينات اللاتى رحبن بالحديث.
«السجن تأديب وتهذيب وإصلاح»، عبارة دونت على أحد المكاتب الإدارية بسجن النساء بالقناطر الخيرية، في إشارة واضحة إلى أن اللوائح المنظمة لإدارة السجون تقضى بإصلاح النزيلة وتأهيلها، على نفس الخط مع التقويم، والغاية أن تخرج السجينة بعد انتهاء فترة عقوبتها مؤهلة نفسيًا وحرفيًا، لممارسة حياة طبيعية، بعيدة عن السلوك الانحرافى الذي أتى بها خلف الأسوار.تتفق تلك العبارة مع تصريحات اللواء محمد على، نائب مدير مباحث السجون، والتى أكد خلالها أن الإدارة العامة لقطاع السجون، تعمل على «تأهيل النزلاء لحياة طبيعية خلال فترة تواجدهم بالسجن، وكذا رعايتهم اللاحقة بعد خروجهم، عن طريق صندوق الخدمة الاجتماعية، وتدريبهم في مجالات الزراعة وتربية الحيوانات وداخل ورش الأثاث ومصانع الملابس ومصانع الحلوى، لإشغال وقتهم من ناحية، ولتأهيلهم من ناحية أخرى».المزيد
ترى في نفسها، أنها أم لكل نزيلات السجن، ربما لكبر سنها مقارنة بهن، وربما لطول مدة سجنها، حيث تُعتبر من أقدم السجينات، بمدة بلغت حوالى 19 عاماً، ترى نفسها أما خاصة لهؤلاء اللاتى دربتهن على أعمال الأشغال اليدوية والمفروشات، وتخرجن في «مدرستها» وتربحن بسبب (الصنعة)، ومنهن أيضًا من احترفت الصنعة بعد خروجها من «القناطر».المزيد
بعد مرور 4 سنوات خلف أسوار سجن النساء، لم يعد يشغل بال فاطمة أي شىء بعد أن تمكنت منها الأحزان، بدأت تلك الأوجاع بدخولها السجن، في قضية إيصالات أمانة، ثم طعنة من زوجها ورفيق دربها، بأن طلقها وتزوج من أخرى بعد شهر، ومنذ ذلك الحين لم تر أيا من أولادها الثلاثة، أو تسمع عنهم خبراً.تروى فاطمة، التي تبلغ من العمر 43 عاما، مأساتها، قائلة: «كنت بشتغل ممرضة في مستشفى بالقليوبية، ومرتبى كان ضعيفً، استلفت 10 آلاف جنيه، وبدأت في بيع الأجهزة الكهربائية بالتقسيط، وتعثرت في السداد لمدة شهرين، فرفع الدائن الإيصالات في المحكمة، وحكم على بـ8 سنوات، قضيت منها 4».المزيد
بدخولك لكافتيريا السجن ستقابل إيمان، تشعر أنها سيدة أعمال، هي بالفعل كذلك، لذا- بحسب قولها- فإن «إدارة السجن أوكلت لى مسؤولية كافتيريا السجن والمطبخ».داخل كافتيريا السجن تُشرف إيمان على عدد من النزيلات، إحداهن تخبز، والثانية تصنع البيتزا، والثالثة تصنع الحلويات الشرقية، وأخرى تقف على «شواية» فراخ، تقول إيمان: «الوجبات هنا في متناول الجميع، وكل المستويات وكل الأذواق، الهدف الأساسى ليس الربح، الهدف توصيل الخدمة للنزيل، وناخد سرك عالى، تصل إلى 500 و600 جنيه شهرياً، بواقع هامش ربح 25%».المزيد
«تأخرت شهرين في أقساط أجهزة كهربائية، كنت اشتريتها، فرفع الدائن الإيصالات للقضاء، وحُكم عليّ بـ9 سنوات سجن»، بهذه الكلمات بدأت «عزة»، البالغة من العمر 35 عامًا حكاية قصتها التي أتت بها خلف أسوار سجن النساء بالقناطر.تقول عزة: «لى من الأبناء 4، أكبرهم يبلغ من العمر 16 عاماً، وزوجى متوفى منذ 4 أعوام بعد إصابته بسرطان المعدة، أنا لا أعمل، وقررت أن أسعى لتوفير دخل لى ولأطفالى الأربعة، خاصة أن دخل زوجى وقتها لا يكفينا، فهو كان يعمل ميكانيكياً، في شركة مقاولات».المزيد
«قضيت داخل أسوار السجن 27 شهر، وآمل أن أخرج على أربعين شهرا»، روت ثناء السيدة الأربعينية، مأساتها التي ألقت بها خلف قضبان السجن، والتى كانت بسبب فشلها في محاولة تحسين دخلها، لكن الدائن هذه المرة كان هو شقيقة زوجها.تقول ثناء التي تبلغ من العمر 46 عاما: «كنت أعمل مراجعة حسابات في أحد المستشفيات، مرتبى كان ضعيفا، وكنت لا أستطيع أن أصرف على أولادى، فقررت أن أحسن دخلى، عن طريق استلاف رأس مال، وبالفعل وجدت ضالتى حيث استلفت المال من شقيقة زوجى، واشتريت العديد من الأجهزة الكهربائية، لأبيعها بالقسط مرة وكاش مرة أخرى، وبدأت الأحوال تتحسن نوعا ما، وساعدت زوجى الذي يعمل صنايعى في مصاريف المنزل».المزيد
بوجه يمنحها الكثير من براءة الأطفال، وبعينين مستديرتين تزيد أشعة الشمس من لونهما الذهبى، دخلت «زينة» مستندة برأسها على كتف والدتها «نوسة» إلى مكتبة السجن، حيث كان اللقاء.. لن تخطئ عين تشابه الملامح الكبير بين الأم وابنتها، وإن كانت الطفلة أكثر سكونًا.ابتسامة ساخرة صاحبت إجابة «نوسة» وهى تفصح عن مؤهلها التعليمى: «أنا خريجة كلية الدراسات الإسلامية، جامعة الأزهر»، وبحركة لا إرادية تنم عن توتر، وقبل أن تسترسل في الحديث، نقلت رأس ابنتها من كتفها الأيسر إلى الأيمن، قبل أن تجيب بهدوء عن السؤال التقليدى: «بنفذ حكم 3 سنين في تهريب ترامادول للإمارات، بس والله مابتوعى».المزيد
أحدث النزيلات خلف أسوار سجن القناطر، كانت إيمان الأم الشابة، الشخصية المثقفة، التي عملت 10 أعوام في واحدة من أكبر شركات الاتصالات المصرية، والتى قادها شيطانها إلى حيازة كوكايين داخل دولاب منزلها، وبدأت في تنفيذ عقوبة مدتها 6 سنوات، لم تقض منها سوى أيام معدودات، بعد إدانتها بالاتجار في المخدرات.المزيد