«هتروح المحلة الكبرى من غير ما تزور السيد البدوى فى طنطا؟!»، هكذا سألتنى أمى، وكأنها مستغربة. كنت ذاهبا لزيارة أحد مصانع مدينة المحلة. كما كان يقتضيه عملى، حدث ذلك قبل سنوات بعيدة. أضافت أمى: «ألا تعلم أن السيد البدوى صاحب فضل علينا كبير؟!».
وراحت تسرد لى القصة التالية: جدك الكبير كان الأميرلاى فى الجيش، كان محكوما عليه بالإعدام. فقد كان شريكا لعرابى فى ثورته، حينها كانت عقوبة الإعدام يتم تنفيذها فى الإسكندرية. وفى طريقهم إليها. كان القطار يتوقف فى مدينة طنطا لساعتين، انتهز السجناء الفرصة. طلبوا من الضابط المكلف بحراستهم، أن يصلوا فى مسجد السيد البدوى. صلاة أخيرة يودعون من خلالها دنياهم. استجاب لهم الضابط. ذهبوا للصلاة وهم فى الأغلال. وبعد أن أدوا صلاتهم وقفوا فى خشوع يتضرعون إلى الله.
وإذ بهرج ومرج، والناس تصيح باسم أفندينا. كان الخديو توفيق آنذاك قد جاء هو الآخر بقائمة مطالب، جاء ليستعين بالله فى قضائها، فى مسجد البدوى. «من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه».
عندما شاهدهم الخديو سأل: مَن هؤلاء؟ فلما عرف قصتهم. ولما كان صاحب حاجة وسؤال مثلهم. استبدل عقوبة الإعدام بعقوبة تحديد إقاماتهم كل فى قريته، لا يخرج منها أبدا. ولما كان بسطاء القرية يذهبون للقاهرة، ذهابا وإيابا، وهو ممنوع من الخروج، ومن الحركة، كان يقول: الإعدام كان أهون من سجنى هنا.
هذه القصة حكيتها لصديقى الذى وجدته فى لحظة ما رائق المزاج. سألته: هل تتناول معنا العشاء غدا مع زمرة من الأصدقاء؟ أجاب: آسف، كنت أتمنى. غدا أنا مسافر. سألته: إلى أين؟ قال: إلى لندن. سألته: هل أنت مسافر للعلاج أم لعمل تقضيه؟ قال: لا هذا ولا ذاك. أسافر لمجرد السفر. لاستخدام حق حُرمت منه قسرا. وكنت ممنوعا من السفر طوال الفترة الماضية. معتقلا. يتساوى إن كنت معتقلا فى سجن أو إقامتى محددة فى بيتى أو فى قرية أو فى بلد. يكفى هنا الإحساس بالقيد. الشعور بالحبس مؤلم غاية الألم. لا يقاسيه إلا مَن عاناه.
قلت له: يبدو أن الدولة تنبهت إلى هذا السر فمهما كانت تهمتك قبل التحقيق فيها أو التحقق منها، فأول شىء يجرى على قلم المحقق هو المنع من السفر. وليكن أى شىء آخر بعد ذلك، كفالة... إلى آخره.
قلت له: هذا شىء ليس غريبا على مصر. يوما ما كلها كانت ممنوعة من السفر. إلى أن ألغى السادات تأشيرة الخروج. كان الحصول عليها بالضالين ولمدة محددة. ويجب الموافقة على البلد الذى ستسافر إليه. رد صديقى قائلا: الظلم فى الكثرة عدل، ولكن تحديد الظلم وقصره على شخص بعينه. وحرمانه مما هو مباح لباقى الناس هو الظلم عينه.