(1)
ماذا تكتب هذا المساء؟
(2)
سؤال بسيط أسأله لنفسي كل يوم، وأحيانا كل ساعة، وأعتقد أنه لم يعد سؤالاً للكتاب المحترفين وفقط، لأنه أصبح سؤال الملايين الذين يمارسون الكتابة بشكل يومي على صفحات التواصل الاجتماعي (خاصة فيس بوك وتويتر).
(3)
برغم كثرة القضايا والاهتمامات، كثيرا ما ضبطت نفسي متلبساً بالحيرة و«التوهان»، فالموضوعات التي تشغلني قد تكون بعيدة عن اهتمامات القراء، وقد تكون بعيدة أيضا عن الأحداث، فغالبا ما يتأثر الكاتب بقضية فكرية هادئة يتمنى عرضها، أو فيلم شاهده وأثار لديه أفكاراً متجددة لكنها ليست من قضايا الساعة الساخنة، أو كتاب يتضمن حفراً تاريخياً في مرحلة ما، أو تجربة في الإدارة، أو معلومات عن العالم الذي نعيش فيه، لكن قرار الكتابة لم يعد اختيارا حراً للكاتب ولا لأصدقاء «الفيس بوك»، فنحن قد نتوهم أننا نكتب ما نريد وقتما نريد، لكن الحقيقة أننا نكشف عن مواقفنا في القضايا التي يريدون لنا أن نكتب فيها وقتما يريدون، بمعنى أننا تحولنا إلى مجرد عينات لقياس ردود الفعل على حدث ما، أو قرار ما، وبالتالي تهتم السلطة بكل أنواعها (سياسية – أمنية – دينية – مالية- ....) برصد ردود أفعالنا ودراستها جيدا لتتخذ الموقف والقرار الذي يلائم مصالحها، ويعضد استمرارها في موقع الفعل، ويكرس استمرارنا في موقع «رد الفعل».
(4)
هل تذكرون مشهد التحريض في فيلم «الشيماء».. بتاع: من حرق دياركم؟، من قتل أبناءكم؟، من أقال زندكم؟ فيجيب الرجل الضخم في كل مرة: خزاعة.. خزاعة.. خزاعة، بينما يتصاعد غضبه وتشتعل رغبته في الانتقام وشرب تلاتة بيريل ومع اتنين تايجر...؟!
(5)
صباح أمس نشر الصديق النابه ماجد عاطف ملاحظة بسيطة على صفحته في «الفيس» تتضمن الإشارة إلى عناوين المقالات في إحدى الصحف اليومية الكبيرة، كانت كلها خزاعة.. خزاعة، فمعظم المقالات الزند... الزند، من أقال الزند؟ ومن فرح بإقالة الزند، زلة الزند وزلات النظام، خسارة الزند، لا عصمة للزند في دولة العند، حبايب الزند، وقالوا لى هان «الزند» وأشياء أخرى!.
وسأل ماجد بذكائه المشاكس المتخابث: ينفع جورنال في الدنيا يبقى تقريبا «كل» مقالات الرأي فيه بتتكلم عن نفس الموضوع؟
(6)
تذكرت هربرت شيللر وكتابه عن إدارة العقول، والتلاعب بها، وقلت لنفسي لم يعد هذا اكتشافاً، لقد أصبح التحكم عن بعد أحد بديهيات العصر، لكنني سألت نفسي من يتحكم؟، وكيف؟ وما هدفه؟
(7)
لم يعد الحديث عن الإمبريالية والاستعمار ونزعات الكولونيالية مستساغاً كإجابة عن هذه الأسئلة، فقد تغير شكل العالم، وتغيرت خريطة المتحكمين، وأصبح الماتريكس المحكومين يتبادلون مع السلطات المختلفة لعبة التحكم فيما نكتب، بل وفيما نفكر ونغني، ونلبس، ونأكل، لهذا تذكرت حماس صديقي رئيس التحرير بفضائية دولية كبرى وهو يعارض مقولات هربرت شيللر عن خطورة تحكم وكالات الأنباء في أجندة القضايا المفروضة على اهتمامات الناس في العالم: إنس ذلك، فنحن لم نعد عبيداً لوكالات الأنباء، إنهم ينتجون الآن مانريد، ويسألوننا عن الموضوعات التي نحتاجها، بدلا من الاكتفاء بتقديم ما يتوفر لديهم!.
(8)
وصل بنا النقاش في هذا «الانقلاب» إلى تغير طبيعة السوق، حيث تمثل ضغطة حضرتك بالماوس على المقال قوة تمويل كبيرة (بعد ترجمة مرورك على صفحة ما، أو إعجابك بمحتوى على أي صفحة إلى نصيب أكبر في عوائد الإعلانات)، هكذا أصبح «الترافيك» شريكا جديدا في السلطة، وبرغم أن حضرتك من جنودك، فإن العائد يذهب إلى جيوب فئة جديدة في شكلها (قديمة في مفهومها) وهي أباطرة الإعلانات الذين صاروا الأكثر هيبة والسمع كلمة والأكثر تحكماً في إمبراطورية الإعلام، وبالتالي في اختيار نوعية البرامج، وإطار القضايا التي سيناقشها الناس في البيوت والمقاهي والسيارات، بل وعناوين الأخبار والمقالات، وأيضاً مضمون البوست أو التعليق الذي ستكتبه على «فيس بوك»، لأنك ببساطة لا تحسبه بما يحمل من مضمون أخلاقي أو إنساني، أو رغبة حقيقية في التعبير عما تريد، ولكنك تكتبه وعينك على عداد اللايكات وعدد التعليقات.
(9)
هل يعني هذا أن «الترافيك» هو المحرك الأول والوحيد، وهل أصبح هو وريث السلطات القديمة الذي يمسك بـ«دركسيون» العقل العالمي في هذه اللحظة؟
أنا شخصيا، لا أظن، لأن «الترافيك» قناع.. مجرد قناع عصري لنفس السلطات القديمة، كأنني اتحدث عن فودة وهشيمة والكحكيون، كأنني أرى اليد التي تحرك ذلك الوحش الميكانيكي الجديد (الترافيك) وتوجهه، ولذلك كتبت مقالي هذا ضد مؤشرات الترافيك، ليس هذا فقط، بل أنوي كشف الخدعة الهائلة التي تزيف كلماتنا، وتموه مواقفنا وتشتت قضايانا، بل تضللنا وتمسخ حياتنا كلها.
(10)
و يا أيها الجمهور.. كم من الجرائم ترتكب باسمك.