بعد أقل من شهر على سقوط حسني مبارك في فبراير 2011، انتقل الحراك الثوري إلى سوريا، انتفض الشعب ضد بشار الأسد، فطالبه الغرب بمزيد من الإصلاحات، بعد فترة قصيرة، طالبوه بالرحيل، توقع المحللون سقوطه، لكن سرعان ما تحوّلت ثورة السوريين إلى شلال من الدماء، وأصبح المجتمع السوري شاهدًا على «حرب كونية»، واشنطن والسعودية والجماعات المسلحة من ناحية، وروسيا وإيران مع ناحية أخرى، وبقى «بشار» على رأس السلطة، طارحاً خيار «إما أنا أو داعش».
5 سنوات مرّت على الثورة، دُمرت فيها القطاعات الخدمية والإنتاجية، خسرت سوريا مليارات، أكثر من 400 ألف قتيل، الشعب هجّر من أرضه قسراً، وبات الملايين مشردون بين خيام الأرض، والآلاف ينامون في العرّاء، و13 مليوناً بحاجة إلى مساعدات، 5 سنوات تبدّلت فيها مواقف الدول والمثقفين.. سوريا أزمة القرن الـ21.
«المصري اليوم» حاورت الكاتب اللبناني، زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بباريس. لم يتأخر «ماجد» عن دعم الثورة السورية، وصار أكثر الأصوات دفاعا عن السوريين في المنابر الإعلامية والأكاديمية العربية والغربية.
يحلل مؤلف كتاب «سوريا.. الثورة اليتيمة» الصادر عام 2014 باللغتين العربية والفرنسية، أسباب صمود «بشار»، والأسباب التي أدت لانتشار الجماعات الإرهابية مثل «داعش» في المجتمع السوري، وعن صراع القوى الدولية والإقليمية في البلد الشقيق.
وإلى نص الحوار:
- ماذا حدث في سوريا خلال الخمس سنوات الماضية؟
سوريا شهدت في الخمس سنوات الماضية 5 حقبات، تدرّجت فيها الأمور من ثورة شعبية سلمية إلى كفاح مسلّح إلى حرب شاملة، ثم إلى مجموعة تدخّلات عسكرية خارجية، حوّلت الساحة السورية إلى ما يمكن تسميته بـ«الحرب الكونية».
الحقبة الأولى من مارس إلى أغسطس 2011، مظاهرات وتجمّعات سلمية تنادي بإسقاط النظام ورحيل «آل الأسد» من الحكم بعد 41 عاماً من استيلائهم على السلطة بانقلاب عسكري، وفرضهم حُكماً مستبدّاً أطاح بالحرّيات العامة والخاصة وبحقوق الإنسان في سوريا، وردّ النظام على المظاهرات السلمية بالقتل والاعتقال، وبدأت الحقبة الثانية في سبتمبر 2011 وانتهت أغسطس 2012، وكانت حقبة سير المظاهرات السلمية بموازاة بروز كفاح مسلّح ضد النظام، قوامه منشقّون من الجيش رفضوا إطلاق النار على شعبهم، ومتطوّعون حملوا السلاح لحماية المتظاهرين في عدد من المناطق، وشكّل هؤلاء ما عُرف باسم «الجيش السوري الحرّ»، انتهت بسيطرته على عدد من المناطق الحدودية مع تركيا والعراق والأردن، وعلى بعض المدن والبلدات في محيط العاصمة دمشق، بجانب عدّة مناطق من مدينتي حلب وحمص، وعرفت تلك الحقبة بدء تنفيذ ميليشيا «الشبيحة» (النسخة السورية الأكثر شراسة من البلطجية) مجازر طائفية في عدد من المناطق المختلطة في سوريا، راح ضحيّتها المئات من المدنيّين وتصاعد على إثرها الخطاب الطائفي في البلاد، كما عرفت تدّخلات إيرانية دعماً للنظام وتمويلاً لآلته الحربية.
الحقبة الثالثة من سبتمبر 2012 إلى أغسطس 2013، وكانت حقبة تحوّل الكفاح المسلّح إلى حرب شاملة، نتيجة استخدام النظام كافة أسلحته في مواجهة «الجيش الحر»، والمدنيّين في المناطق التي حرّرها، واستُهلّت هذه المرحلة بدخول سلاح طيران النظام وصواريخه البالستية المعركة، كما استمرّت الاعتقالات والاغتيالات لأبرز الناشطين السلميّين المعارضين.
وشهدت تلك الحقبة 4 تطورات هامة: الأول، بدء صعود القوى الإسلامية السورية المقاتلة ضد النظام بموازاة «الجيش الحر»، والثاني: بروز «جبهة النصرة» الجهادية عسكرياً في بعض المناطق الشمالية والشرقية، حيث تسلّل المئات من الجهاديّين الأجانب عبر الحدود التركية والعراقية، والثالث: تأسيس «داعش» وسعيه من العراق لضمّ «النصرة» إلى صفوفه لكنه فشل، والرابع: تدفّق الآلاف من المقاتلين الشيعة إلى سوريا لمساندة نظام الأسد بتمويل ودعم إيراني.
الحقبة الرابعة امتدّت من سبتمبر 2013 إلى أغسطس 2014، وهي مرحلة صعود «داعش» بعد قتال ضار واجه فيه «الجيش الحر» والقوى الإسلامية السورية، وسيطر على محافظتي الرقة ودير الزور، وأراح هذا الصعود نظام الأسد إلى حدّ كبير لسببين: الأول: أنهك «الجيش الحر»، والثاني: صار بمقدوره القول للعالم إن الخيار أصبح بينه وبين «داعش».
الحقبة الخامسة من سبتمبر 2014 إلى اليوم، وهي حقبة التدخّلات العسكرية الدولية المباشرة، بدءًا من التدخّل الأمريكي الغربي الجوّي ضد «داعش» وصولاً إلى التدخل الروسي في سبتمبر 2015 ضد «الجيش الحر» والقوى الإسلامية السورية و«جبهة النصرة»، وتخلّل هذه الحقبة تصاعد في الصراعات الإقليمية بين إيران والسعودية، وانعكاس ذلك سورياً، وتخلّله أيضاً تمكّن الميليشيات الكردية من السيطرة على مناطق شمالي سوريا.
هكذا، تحوّلت الثورة السورية من انتفاضة شعبية سلمية إلى كفاح مسلّح فحرب شاملة وصولاً إلى صراع كوني على سوريا، على أن الثابت الأساسي في كل هذه التطوّرات ظلّ المعادلة التالية: أكثرية شعب تريد الخلاص من نظام مستبدّ مارس العنف الهمجي.
- لماذا صمد بشار طوال هذه الفترة مقارنة بغيره من الرؤساء الذين أطاحهم الربيع العربي؟
حافظ الأسد أنشأ مؤسسات تُدين بالولاء لعائلته.. ومُستعدة لتدمير المجتمع الثائر عليها
هناك 4 مسائل رئيسية، الأولى: البُنية «الأمنية – العسكرية» للنظام التي لا تشبه إلا مثيلتها في «عراق صدّام حسين» سابقاً، هذه البنية نفسها السلطة الفعلية، ومركزها أجهزة مخابرات ومؤسّسات قمعية تقوم على ولاء شديد لشخص الرئيس لأسباب طائفية ومنفعية، وهذه أجهزة ومؤسسات صمّمها والد بشار الأسد «حافظ»، وجعلها متماسكة دفاعاً عنه وعن نفسها وفق عقيدة معاداة للمجتمع السوري، والأجهزة نفسها مطلقة الصلاحيات في ظلّ حالة طوارئ قائمة منذ نصف قرن، وفي ظلّ بند دستوري يسمّي حزب البعث «حزب الرئيس» على أنه «قائد الدولة والمجتمع». النتيجة أن هذه الأجهزة شديدة البطش تدافع عن نفسها دون مخافة الانفجار الشامل في البلاد فتستخدم كلّ مقدّرات الدولة لتدمير المجتمع الثائر عليها وإبادته، بالمعنى الحرفي للكلمة، وهذا يختلف تماماً عن حال الدول العربية الأخرى.
المسألة الثانية: الطائفية في سوريا، على عكس دول المغرب العربي، تُعدّ هذه المسألة من المسائل الشديدة التعقيد، النظام السوري الأسدي منذ تأسيسه عام 1970، لعب على هذه المسألة، وحوّل الطائفة العلوية التي ينتمي إليها (وتشكّل 10 % من السكان) إلى طائفة سياسية يجنّد قسماً كبيراً من رجالها في الجيش والمخابرات وسائر الأجهزة الأمنية، ويسعى إلى أن تؤمّن له قاعدة صلبة، وقد عطف على الأمر ولاءً من رجالها في المواقع الأمنية والعسكرية البارزة لعشيرته أو لعائلته، ولنتذكّر أيضاً أن شقيق بشّار «ماهر»، هو قائد الفرقة الرابعة في الجيش الأكثر تجهيزًا، وأن ابنَي خاله وعمّته حافظ مخلوف وذو الهمة شاليش هما من رؤساء الأجهزة المخابراتية الأبرز في النظام، وصهره آصف شوكت (الذي قُتل عام 2012) كان أحد أقوى مسؤولي المخابرات العسكرية، كما أن العديد من أقاربه محافظون ومسؤولون في الدولة.
وعطف النظام على سياسته «العلوية»، سياسةً طائفية أخرى هدفها التقرّب إلى باقي الأقليات في سوريا، لادّعاء أنه حاميهم من الأكثرية المسلمة السنية، إضافة إلى ذلك، لعب النظام على الدوام على المسألة الكردية (يشكّل الأكراد 10 % من سكان سوريا)، فوظّفها خارجياً لابتزاز تركيا، ووظّفها داخلياً لخلق توتّرات عربية كردية يبدو فيها على الدوام صاحب الكلمة الفصل، وهذا كلّه أدّى إلى شرذمة المجتمع وتعريضه الدائم للعنف، كلما حاول أن ينتفض كما حدث في عام 1982 في مدينة حماة من قتل الآلاف، بجانب ما حدث في السجون مصل سجن تدمر، سوريا حولها آل الأسد إلى «مملكة الخوف» كما أطلق عليها معارضون أمثال رياض الترك، ولم يكن سهلاً بالتالي هدم أسوار هذه المملكة دفعة واحدة.
النظام اعتمّد «سياسة طائفية» للتقرب إلى الأقليات.. ووظّف المسألة الكردية لـ«ابتزاز تركيا»
المسألة الثالثة التي أنقذت النظام: التدخل الدولي الذي صبّ في مجمله لصالحه، على عكس ما يظنّ كثيرون، في مقابل دعم سياسي وإعلامي للمعارضة من قبل فرنسا وبريطانيا، وفي مقابل أسلحة خفيفة ومعدّات لوجستية أرسلتها تركيا وقطر والسعودية إلى بعض كتائب «الجيش الحر»، والفصائل الإسلامية «المعتدلة»، عطّلت روسيا مجلس الأمن الدولي، واستخدمت الفيتو 5 مرّات لمنع إدانة النظام ومعاقبته، وقدّمت إلى «الأسد» بالتعاون مع إيران أسلحة حديثة ومنظومات صواريخ ودبابات وآليات نقل مدرّعة وقطع غيار للطائرات والطوّافات، ووضعت في خدمته ابتداءً من عام 2013 طائرات بلا طيّار، كما أنّ إيران دفعت بحوالي 20 ألف مقاتل من حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية، وأكثر من ألف مدرّب وخبير عسكري إيراني إلى الأراضي السورية لحمايته.
كان النظام قريباً من السقوط في صيف عام 2015، حيث اقتصرت سيطرته على 20 % من الأراضي السورية، واعترف «الأسد» نفسه في خطابه يوليو الماضي، أن جيشه منهك، وهذا كان واحداً من الأسباب التي دفعت إلى تعجيل التدخّل الروسي المباشر.
- كيف تقرأ الصراع الدولي والإقليمي في سوريا؟
روسيا حليف قديم لنظام الأسد، ولها مصالح اقتصادية واستثمارات، ولها سوق سلاح هو السابع حجماً بالنسبة لصناعاتها العسكرية، يضاف إلى ذلك أن روسيا شرعت منذ سنوات في توسيع قاعدتها العسكرية على الشاطئ السوري قرب طرطوس، وكانت تنوي جعلها قاعدة كبرى في البحر المتوسّط، الأهمّ ربما أن موسكو تعتبر دمشق حليفها الأخير في المنطقة بعد سقوط نظامَي «صدّام والقذّافي».
إيران، فتحالفها مع نظام الأسد بدأ عام 1980 بعد صعود الخميني إلى السلطة، ولحظة بدء الحرب «العراقية- الإيرانية». سوريا بالنسبة إلى طهران ممرّ للبنان، حيث «حزب الله»، حليف إيران الأقوى في المنطقة، وحيث الحدود مع إسرائيل، بما يجعلها في قلب أحداث الشرق الأوسط، إضافة إلى ذلك، فإن إيران صارت بعد عام 2003، عام الغزو الأمريكي للعراق، القوّة الأكثر نفوذاً في بغداد، ما يعني أن سوريا تؤمّن لها عمقاً استراتيجياً وقوساً من النفوذ يمتد عبر بغداد، فدمشق حتى البحر المتوسّط، ثم حتى حدود لبنان الجنوبية.
بالنسبة للسعودية، إسقاط «الأسد» يعني إسقاط النفوذ الإيراني في بلد ذي غالبية سنّية مهمّشة، أما بالنسبة لقطر وتركيا، فإسقاط الأسد تكريس لتنامي دوريهما في الشرق الأوسط، وردّ على تنكّر الرئيس السوري لمساعداتهما السياسية والاقتصادية لنظامه بين عامي 2001 و2010، وبالطبع لتركيا تركيز خاص على الشمال السوري حيث تتواجد الأقلية الكردية السورية.
في ما يخصّ أمريكا، لا يبدو إسقاط الأسد أولوية، على خلاف ما يظنّ دعاة نظرية المؤامرة. الحظر على الأسلحة المضادة للطيران التي كانت السعودية تنوي إرسالها للمعارضين عام 2012، واستمرار الحظر حتى هذا اليوم، أمدّا بعمر النظام، كما أن التسوية مع روسيا بعد المجزرة الكيماوية التي ارتكبها الأسد صيف 2013 عوض التدخّل ضده، على ما هدّد أوباما، أعطت الأسد حياة ثانية. هذا لا يعني أن واشنطن تريد بقاء الأسد، لكن مغادرته أو بقاءه بالنسبة إليها يرتبطان بسلّة اتّفاقات مع طهران وموسكو وبمشروطية «الحرب الدولية على الإرهاب».
- كيف تقرأ إعلان السعودية وتركيا التدخل البري في سوريا؟
أظنّ الإعلان أقرب للتهديد منه إلى إمكانية التدخّل السريع، لكن إذا استمرّ الصراع على حاله فترة أطول، يمكن توقّع تحرّكات جدّية. من الجهة السعودية، ترى الرياض أن إعلان الحرب على «داعش» من منطلق مشروعيّةٍ مذهبية سنّية وعربية هو الردّ المناسب الذي يقطع الطريق على مزايدات الإيرانيين حول الإرهاب وعلى اتّهامها بمهادنته أو تغذيته، فإن حصل الأمر وأرسلت السعودية قوات برّية للتقدّم باتجاه معاقل «داعش»، أصبحت المملكة لاعباً مباشراً على المسرح السوري، وصار لها اشتراطات حول أشكال الحلّ اللاحق فيه بما لا يُبقي طهران اللاعب الأقوى، أما بالنسبة لتركيا، فالتلويح بالتدخّل يستهدف القوى الكردية المسلّحة بشكل خاص. ومن خلال عمليّات ضدها وضد «داعش» يمكن لأنقرة أن تفرض مع الوقت منطقة «آمنة» كما تسمّيها على حدودها، لكن طبعاً دون ذلك مصاعب عدّة، منها الرفض الروسي للأمر، وتردّد «حلف شمالي الأطلسي» تجاهه كي لا يتحوّل إن حدث إلى مواجهة واسعة مع الروس، لذلك، لا أظنّ ترجمة الإعلان هذا قريبة أو يسيرة، ولَو أنها ممكنة إذا تدهور الوضع الميداني من جديد وظلّ من دون ضوابط سياسية.
- ماذا عن موقف مصر مما يحدث؟
تبدّل موقف مصر الرسمي بعد تبدّل السلطات فيها. في عهد الرئيس الإخواني محمد مرسي كان الموقف داعماً في السياسة للثورة السورية لكن دون دعم عينيّ أو تدخّل مباشر، وبعد تولّي عبدالفتاح السيسي الرئاسة تبدّل الموقف وصار أقرب إلى الموقف الروسي، ولَو من دون قطيعة مع مواقف السعودية.
مصر دعّمت الثورة في عهد «مرسي» دون تدخل مباشر.. ونظام «السيسي» مُهتم أكثر بالحالة الليبية
قد تكون الخارجية المصرية في الفترة الأخيرة معنية أكثر بالحالة الليبية منها بأحوال سوريا، لأسباب أمنية، أما أدوار مصر المستقبلية وتأثيرها في توازنات المنطقة وقضاياها، فلا أظنّها بصراحة فرضيّة متاحة على المديين القصير والمتوسّط، لأسباب عديدة، أوّلها أوضاع مصر الداخلية.
- السوريون يقفون اليوم أمام حلّين أحلاهما مرّ: النظام الديكتاتوري والإسلاميين.. هل هناك حل آخر؟
ليست هذه المعادلة دقيقة لعدّة أسباب، الأول: أنه لا يمكننا اختصار سوريا بنظام قاتل وبإرهابيّين جهاديين، والثاني: أن الإسلاميين السوريّين ليسوا جميعاً متطرّفين أو داعين للعنف، والثالث: أن في سوريا تنوّعاً طائفياً وثقافياً واجتماعياً لا يسمح في أوضاع سلمية لأطراف تُعلي إيديولوجيا سياسية دينية بالهيمنة، والأهم ربما أن السوريّين ثاروا ليرفضوا الابتزاز الدائم الذي مارسه النظام عليهم: القبول بالقمع أو الفوضى، الاستبداد أو الإرهاب، المذلّة أو الموت.
[quote:4]
الحلّ برأيي سياسي، يبدأ باتفاقات دولية وعربية عبر استخدام كل أنواع الترغيب والترهيب مع روسيا وإيران للتخلّي عن الأسد ونظامه، والتوافق على تشكيل مجلس سوري تأسيسي يعيد صياغة الدستور ويحضّر لانتخابات ويعيد تشكيل المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية ليتمثّل فيها مسؤولون من مختلف الأطراف السورية المتصارعة اليوم، غير المتّهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ويترافق ذلك مع دعم السوريّين سياسياً واقتصادياً للنهوض من جديد ومع شنّ حرب تحرير ضد «داعش» ومثيلاتها، ومع تحويل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية لكي يتحمّل المسؤولون عن المجازر التي وقعت والتي وثّقت الكثير منها جمعيات حقوقية سورية ومنظمات دولية ولجان أمميّة.
- كيف تقيّم موقف المثقفين العرب تجاه ما يحدث في سوريا؟
مواقف الكثير من أطياف اليسار العربي وجزء كبير من المثقفين العرب تُراوح بين الصمت تجاه المقتلة السورية وتأييد النظام الأسدي، لكن التعميم بالطبع غير جائز، فثمة قوى وشخصيات يسارية وقفت منذ البداية وما زالت إلى جانب الثورة السورية، وثمة قامات ثقافية عربية كثيرة رفعت صوتها ضد الفاشيات القاتلة في سوريا.
ويمكن إحالة مواقف الكثير من اليساريّين الملتبسة أو المنحازة للأسد، ومعهم العديد من المثقّفين، إلى أسباب أربعة، الأول: ابتعادهم عن الناس «العاديّين»، وعدم اكتراثهم بمصائر هؤلاء وبكراماتهم وحرّياتهم أو بسِيَرهم ويوميّاتهم وكفاحهم المرير، واستبدالها بالحديث (الفارغ علمياً في معظم الأحيان) عن القضايا الجيوستراتيجية وعن الحدود والصراعات الكبرى.
الثاني: هو ما أسمّيه بالبافلوفية (نسبة إلى نظريّة العالِم بافلوف) في سلوكهم ما إن يدّعي طرف أنه ممانع ومقاوم لإسرائيل ومناهض للهيمنة الأمريكية. النظام السوري منذ سبعينات القرن الماضي امتهن خطاب الممانعة ومناطحة الإمبريالية و«شتم» إسرائيل، ولَو أن جبهة الجولان المحتلّ منذ العام 1967 هي الجبهة العربية الأكثر هدوءاً مع إسرائيل ولم يُسجّل فيها خرق واحد لوقف النار منذ العام 1974. النظام السوري قتل في لبنان وسوريا من الفلسطينيّين أكثر ممّا قتلت إسرائيل إن مباشرة أو عبر حلفائه وعملائه، من تل الزعتر العام 1976 إلى مخيمات البداوي والبارد عامَي 1982 و1983 إلى مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة وعين الحلوة والرشيدية بين العامين 1985 و1989 وصولاً إلى مخيّم اليرموك وسائر مخيّمات سوريا منذ العام 2011. كما أن تنسيقه مع واشنطن العام 1975 سمح له باجتياح لبنان، قبل أن يسمح له إرسال جيشه إلى الخليج بأمرة الأمريكيين العام 1991 خلال حرب الكويت تكريس احتلاله للبنان حتى العام 2005. منذ ذلك التاريخ، عمل النظام وما زال على كسب القبول الأميركي بسياساته إن تعاوناً مخابراتياً.
السبب الثالث: دعاية «العلمنة والحداثة والتقدّمية» التي يرفعها الأسد وهدفها جعله في مرتبة أعلى من مرتبة المجتمع السوري. هذه الدعاية يكرّرها في جميع مقابلاته مع الصحافيّين الغربيين إذ يكرّر القول إن المجتمع السوري غير جاهز للديمقراطية لأنه غير متعلّم كفاية. هذه مقولة عنصرية قديمة معروفة، كما أنه يستخدمها داعياً إلى المفاضلة بين «حداثته وعلمانيّته» وبين أيديولوجيات الإسلام السياسي، ليكسب منها دعماً من مردّدي الشعارات المفصولة عن الواقع، خاصة أن السوريّين يعلمون تمام المعرفة أن نظام الأسد طائفي ورجعي وممارسته قروسطية على العكس تماماً، مّا يردّد الجاهلون بأوضاع سوريا. يكفي الإطّلاع على «بيروقراطية القتل» في السجون وعلى التوحّش في قمع المجتمع السوري وعلى ممارسات الشبيحة وعلى منظومات الفساد وعلى التعبئة الطائفية للوقوف على زيف الشعارات.
السبب الرابع: موقفٌ من الصراعات الإقليمية ومن العلاقات الدولية يُسقطه يساريّون ومثّقفون على الواقع السوري. يؤيّد بعضهم روسيا في حنين ساذج إلى الاتحاد السوفيتي، ويُعادي بعضهم السعودية وقطر، ليتّخذوا من تأييد موسكو والعداء للرياض أو الدوحة أو واشنطن منطلقاً للاصطفاف في سوريا بمعزل عن الشعب السوري وحقوقه وتطلّعاته وكفاحه. في هذا سقوط أخلاقي مريع قبل كونه سقوطاً سياسياً، وفيه أيضاً هروب من النقاش حول سوريا إلى جدال حول بديهيات مثل غياب الديمقراطية في دول الخليج العربي أو انحياز واشنطن لتل أبيب أو انتهاك الأخيرة لحقوق الشعب الفلسطيني، وكأن السوريّين مسؤولون عن ذلك، أو كأن في هذه الشؤون ما يغيّر من جوهر الصراع في سوريا وأسبابه والمسؤوليّات فيه.
تبقى الإشارة إلى أن بعض اليساريّين المعجبين بالأسد وبوتين ونظاميهما إنطلاقاً من دعمهم لاشتراكية مزعومة يجهلون أن «الرأسمالية المتوحّشة» هي إحدى سمات الاقتصاد الروسي منذ سنوات، وأن بشّار الأسد طلّق الاشتراكية البعثية منذ العام 2001 حين ادّعى لبرلة الاقتصاد السوري لتستفيد من خصخصته مجموعة حيتان من أقاربه ومعارفه وأعضاء الدائرة المقرّبة إليه.