لم يكن ممكناً لأى من سيد رضوان فاروق وزوجته تاشفين مالك تصور النتائج بعيدة المدى، سواء كان على الساحة الأمريكية أو العالم، للعمل الإرهابى الذى قاما به فى مدينة سان براندينو بولاية كاليفورنيا، يوم 3 ديسمبر الماضى. فى الظاهر بدا ما قاما به عملاً إرهابياً بربرياً مثل كل الأعمال الإرهابية الأخرى، وزاد عليها أن الإرهابى والإرهابية اختارا مؤسسة لأصحاب الاحتياجات الخاصة لكى يدخلاها ويُفرغا فيها من الرصاص ما كان كافياً لقتل 14 وجرح 17 إنساناً، لم يكن أى منهم يعلم لماذا تم اختيارهم ضحايا لخدمة الإسلام الذى يتصوره إرهابيون من نوع خاص؟ وبالتأكيد فإن العمليات الإرهابية عصِيَّة على الفهم من حيث الدوافع والمقاصد. على أى الأحوال فإن تفاصيل الحدث ومناقشتها جرت فى أماكن أخرى، ولكن هناك نوعين من النتائج للعمل الإرهابى ربما لم ترد على ذهنى الإرهابى والإرهابية.
أولهما على الساحة الأمريكية، وهو أن العملية الإرهابية، وما كان وراءها من علاقات وتفاعلات، وفَّرت مناخاً مثالياً لشخصية مثل دونالد ترامب لكى تجد فرصة حقيقية للوصول إلى البيت الأبيض، ومن ثَمّ فإنها خلقت نقطة فارقة فى التاريخ الأمريكى، وربما العالم.
وثانيهما- كما قال كينيث والتز، عالِم العلاقات الدولية الشهير- إن تاريخ العالم ما هو إلا تاريخ النتائج التى لم ينْتَوِها أحد للأحداث، فما حدث أن العمل الإرهابى انتهى بمشهد مطاردة الإرهابى والإرهابية ومقتلهما عند تبادل إطلاق النار مع الشرطة، ولكن ذلك لم يُنْهِ قصة الحرب على الإرهاب، وربما فتح قصة جديدة عندما وجدت الشرطة مع سيد فاروق تليفونا محمولا من طراز «آبل» iPhone، وجد مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI أنه ربما تحتوى ذاكرته على معلومات تفيد التحقيق والبحث عن الشبكات الإرهابية التى تعامل معها الإرهابيان. وهكذا، ومن خلال النيابة العامة، طلب مكتب التحقيقات من شركة آبل للكمبيوتر تفصيل برنامج خاص يمكن من خلاله قراءة ذاكرة التليفون، وهو ما رفضته الشركة، ودخل الطرفان- استنادا إلى ذلك- فى مواجهة قضائية تضع الدوافع الأمنية المشروعة للشرطة- وفى هذه الحالة الدولة- فى مواجهة الدوافع الخاصة بحماية الحرية الشخصية للأفراد فى ذاكراتهم التليفونية.
سوف نترك موضوع دونالد ترامب جانباً الآن، ولكن ما يهمنا هو أن القضاء الأمريكى يواجه الآن معضلة كبرى كثيرا ما واجهت دولا كثيرة، وهى ما يُعرف بـ«معضلة الأمن والحرية». بالطبع فإن أحدا لا يختلف على فظاعة العمل الإرهابى، وضرورة معاقبة مرتكبيه ومَن كانوا وراءه من الشبكات الإرهابية، ولكن الخلاف ينبع من عاملين، أولهما: أن قيام آبل بتفصيل برنامج خاص لفتح ذاكرة سيد فاروق يمكن أن يكون مقدمة تستخدمها السلطات العامة لفتح «ذاكرات» مواطنين آخرين يُشتبه فى ارتكابهم جرائم، ومن ثَمّ يجهض أساس التعاقد الذى جرى بين الشركة والأفراد.
وثانيهما: أن ما سوف يتم فى الولايات المتحدة من فتح شفرات الذاكرة سوف يُعتبر سابقة تستخدمها فى انتهاك الحرية الشخصية كل دول العالم الأخرى ذات القوانين والدساتير المتنوعة فى التعامل والتوازن بين قضيتى الأمن والحريات الشخصية. المسألة هكذا لها بُعد دولى كبير، فالقضية على جلائها البادى للوهلة الأولى، باعتبارها عملية إرهابية، سرعان ما تفصح عن النتائج التى وصلت إليها الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة من ناحية، وعولمة المنتج والمستهلك من ناحية أخرى، فالثابت أن وزارة العدل الأمريكية طلبت من شركة «مايكروسوفت» أن تنظر فى الرسائل الإلكترونية للمساعدة فى حل جريمة محلية. ويبدو أن الشركة لم تكن لديها معضلة لها علاقة بخصوصية الرسائل الإلكترونية فى المساعدة، ولكن معضلة الشركة أن «الخادم» أو الـServer الذى تخزن فيه الرسائل يوجد فى أيرلندا. هنا أصبحت المسألة الواقعة على الشركة: إما أن تكسر القوانين الأمريكية حينما تمتنع عن فحص رسائل إلكترونية طلبتها وزارة العدل، أو تكسر القوانين الخاصة بحماية الخصوصية الفردية الموجودة فى أيرلندا والاتحاد الأوروبى.
نعود مرة أخرى إلى شركة آبل، فهى بلا شك فخر للصناعة الأمريكية، ولا يوجد مقال أمريكى يقوم بالمقارنة بين الصين والولايات المتحدة إلا ويذكر أن البنية الاقتصادية والسياسية الصينية لا تسمح بقيام شركة مثل آبل من ناحية الابتكار والإبداع. ولكن الحقيقة ليست فقط أن الصين أصبحت تسير على هذا الطريق، وإنما آبل تصنع كل منتجاتها على الأرض الصينية، ثم يُعاد تصديرها مرة أخرى إلى أمريكا. العالم أصبح بهذه الطريقة معقدا أكثر مما نتصور، حيث يبدو أن ترجمة أخرى للعلاقة بين الأمن والحريات الشخصية فى شكل العلاقة بين السيادة والعولمة أصبحت واقعة، فالسيادة تُحتِّم قدرة الدولة على فرض الضرائب مثلا، وليس الأمن فقط، على ما ينتج تحت سمائها، ولكن كيف يمكن فرض الضرائب على مَن يعيش فى عالم افتراضى؟ فرنسا والبرازيل وبريطانيا وألمانيا دخلت فى صدامات حادة مع آبل وجوجل وفيس بوك، التى باتت مطالبة- أولاً- بالإفصاح عما تنتجه، وثانياً بدفع ضرائب عليه. الأمر يحتاج إلى جهد إنسانى كبير لكى يتم التعامل مع هذه المعضلات، فهل لدينا مَن هم على استعداد للتفكير فيها؟