أتمنى أن تقوم مكتبة الأسرة بإعادة طبع كتاب «الزنديق الأعظم»، الذى صدرت طبعته الأولى عام 1963 من دار الكاتب العربى- «الاسم القديم للهيئة المصرية العامة للكتاب»- وقد نفدت الطبعة آنذاك فى فترة وجيزة، لكن الهيئة كعادتها لم تفكر فى إعادة طبعه، رغم أنه كتاب بالغ الجاذبية والإمتاع، يجمع فيه المؤلف، جوزيف جاى جايس، بين الأسلوب الروائى الأخَّاذ والحقائق التاريخية الثابتة التى أضاف إليها المترجم «أحمد نجيب هاشم» كثيرا من الهوامش والتذييلات التى استكمل بها ما أورده المؤلف فى المتن.. الكتاب يقدم لنا سيرة حياة إمبراطور أوروبى مثقف عاش فى العصور الوسطى، تحديدا فى القرن الثالث عشر الميلادى، حينما كان لايزال يوجد بين الملوك والأباطرة الأوروبيين أمّيون بالمعنى الحرفى للكلمة، أى يجهلون القراءة والكتابة!!.. أما فريدريك الثانى، ملك صقلية، بطل هذه الرواية، فقد كان يعرف ست لغات قراءة وكتابة وحديثا!!.. ومن بينها اللغة العربية التى كان يكتب بها مذكراته، حماية لها من أعين الفضوليين!!.. وبالإضافة إلى هذه الميزة التى تميز بها بين ملوك أوروبا فقد كانت له ميزات أخرى اكتسبها من الاحتكاك المباشر بالشارع الصقلى عندما أُطيح بملك أبيه وهو فتى صغير السن، فاضطر إلى الفرار والتشرد فى شوارع باليرمو، حيث راح- رغم صغر سنه- يجمع الأتباع والمؤيدين فى الخفاء، ويحشد الحشود من أجل استعادة ملك أبيه، ثم كُتب له النجاح بعد سنوات من النضال، فاستعاد ملك صقلية وأصبح إمبراطوراً للإمبراطورية الرومانية المقدسة، ورغم أنه قام بالحملة الصليبية السادسة على المشرق العربى، لكى يكتسب شعبية فى العالم المسيحى، فإن هذا لم يمنعه من الإعجاب الشديد بالعرب، الذين لم يتوقف قط- حتى فى سنوات تشرده- عن أن ينهل الكثير من علومهم وفنونهم وآدابهم، وهكذا فقد انتهز فرصة وجوده فى المشرق، وقام بالاتصال بالملك الكامل وابنه الملك الصالح أيوب فى مصر، وأبرم اتفاقا معهما، «وهو ما أغضب البابا». ومن أطرف طرائفه أنه خطر له يوما أن يُجرى تجربة «علمية» لكى يعرف من خلالها إن كان الكائن الحى تخرج منه الروح حقا عندما يموت أم لا، فقام بوضع طائر حى داخل جرة، ثم قام بتشميع فوهتها، وتركها أياما.. وعندما ظل الشمع على حالته، رغم موت الطائر، أعلن أنه قد ثبت له أن الكائن الذى يموت لا تخرج منه روح ولا يحزنون!، ورغم سذاجة التجربة وسذاجة الاستنتاج، فإن هذا يبين أنه كان مولعاً بالبحث العلمى واستخلاص الحقائق من التجربة «أو على الأقل ما تصور هو أنه تجربة علمية»!، غير أن هذه التجربة قد استفزت- فيما يبدو- البابا الذى كان أصلا دائم الاستفزاز من تصرفات الإمبراطور فريدريك!!، فأصدر قرارا بحرمانه من رحمة الكنيسة، وقد كان مثل هذا القرار فى زمانه كفيلاً بهز أى ملك أو إمبراطور من أباطرة أوروبا، «يكفى هنا أن نذكر أنه عندما كان يصدر مثل هذا القرار فى حق أى ملك أوروبى كان يضطر للسفر إلى روما لاستعطاف البابا الذى كثيرا ما كان يتركه واقفا بالباب يوما أو يومين قبل أن يأذن له بالدخول، ويقوم بإلغاء القرار»!.. غير أن الإمبراطور فريدريك الثانى لم يهتز، بل فاجأ البابا بقرار مضاد، كان هو الأول من نوعه، ألا وهو «حرمان البابا من رحمة الإمبراطور!!».. واستشاط البابا جريجورى التاسع غضبا، وقرر تأديب ذلك الزنديق الذى استحق- فيما بعد وعن جدارة- لقب «الزنديق الأعظم»، إلى حد أن «دانتى» قد وضعه فى الدرك الأسفل من جهنم.. وللحديث بقية.