وكأنه كُتب على هذا البلد الحزين ألا يفعل شيئاً فى تاريخه سوى أن يعيش «لحظات حرجة وظروفاً عصيبة»، ولا يسير على طريق سريع أبداً وإنما يدور سنوات وراء أخرى فى «منعطفات تاريخية»، منذ ثورة يوليو مروراً بالعدوان الثلاثى ثم نكسة يونيو وحرب الاستنزاف، وحتى نصر أكتوبر الذى لم نستمتع به لأن البلد كان فى حالة حرب، وصولاً إلى ثورة الخبز، ثم الإصلاح الاقتصادى، وليس انتهاء بنكسة يناير وما تبعها من انحدار مروع فى كل شىء، من بلطجة سائقى التوك توك إلى أحذية النواب الموقرين.
نحو قرن من الزمان ونحن نحلم بوطن قوى فى اقتصاده ومستوى معيشته، فلا نجد إلا ارتفاعاً فى الأسعار والتضخم وعجز الموازنة والضرائب، وانخفاض الإيرادات والسياح والعملات الصعبة، وحملات التبرعات من الجمعيات الأهلية إلى المستشفيات إلى الدولة نفسها التى تعدنا كل فترة بأن الأحوال ستتحسن بعد فترة أطول، ليس بداية من الاستفتاء الشعبى الذى أُجرى فى 15 مايو 1974 لإقرار «وثيقة ورقة أكتوبر» التى أُعدت لتكون بمثابة استراتيجية حضارية لمصر حتى عام 2000، تمتاز بالثبات ولا تتغير بتغير القائمين على الأجهزة التنفيذية، وإجراء ثورة إدارية، وجاء عام 2000 والبلد كما رأيتم «يا مولاى كما خلقتنى»، مروراً بمشروع مبارك ونجله جمال لـ«مصر 2050» مضت منها 11 سنة كاملة قبل نزع المُلك من مبارك ونجله دون تغير إلا للخلف الذى أدى إلى الانفجار فى يناير، وليس انتهاء بـ«استراتيجية مصر 2030»، وكأنه كُتب علينا، جيلاً وراء آخر، أن نعيش ونموت فى انتظار ما لا يجىء.
وجعتنى يا سيادة الرئيس وأنت «موجوع» على هذا البلد فى خطابك الأخير، وغاضب مما آلت إليه أحواله، لأن القدر ساقك لتجلس على قمة وطن مات ضمير أبنائه ووهنت سواعدهم فى العمل، وانحدرت أخلاقهم إلى حد استخدام الحذاء فى التعبير عن الرأى، وطالت ألسنتهم فى «اللت والعجن والتحليل السياسى» على مواقع الرغى الاجتماعى، وتفجير قضايا كبرى من أحداث تافهة كالسجادة الحمراء، وتيمور السبكى، وخناقات مرتضى منصور وخصومه، وحبس ريهام سعيد، ودعارة غادة إبراهيم، وهتك عرض ميرهان حسين.
مم أنت غاضب يا سيادة الرئيس؟ هل تشغل بالك بإعلام توفيق عكاشة وغيره من المذيعين الزعماء والصحفيين المناضلين ومقدمى البرامج النشطاء منظرى هذا الزمان، لا تشغل بالك بهم، فهذا ليس إعلاماً وهؤلاء ليسوا قادة رأى وفكر، وإنما «صراع ديكة» فى سوق عكاظ التى تنصب فى المساء، يفضحون بعضهم بعضا وينشرون غسيلهم القذر الموثق، من رفع السلاح والطرد من القضاء بسبب امرأة، إلى تلقى الشيكات من الإخوان أعداء الإنسانية، إلى تزوير الشهادات العلمية.
سيادة الرئيس، لا تلتفت إلى كل هذا الضجيج، واعمل فقط من أجل ملايين الأرامل أمام منافذ صرف المعاشات، والفلاحين الغلابة فى الحقول، والخريجين الحالمين بفرصة أمام مكاتب العمل، واصل مشروعك لترميم وطن مهلهل، وهى مهمة أصعب من هدمه وبنائه من جديد، عبّد الطرق وشيد المصانع وشق الأنهار وتواصل مع العالم لتوفر للملايين الصابرة بيتاً دافئاً، ورغيفاً مشبعاً، ومقعداً فى مدرسة، وسريراً فى مستشفى، وتأكد يا سيادة الرئيس أن هذا لن يتحقق إلا بالعمل المخلص فقط، فادفعنا لكى نعمل، وأصدر القوانين التى تجبرنا على العمل، ولا تخاطب فينا الأخلاق بمبادرات عمرو خالد، لأننا شعب «نخاف ما نختشيش».