استكمالاً لمقالنا السابق، فإن الرؤية الغربية لظاهرة الإرهاب الذي تمارسه جماعات وتنظيمات منتسبة للإسلام تقوم في الأساس على أن العوامل والدوافع التي تشكلها توجد فقط في الساحة الداخلية للمسلمين سواء كانت دينهم نفسه أو أوضاعهم السياسية غير الديمقراطية، والتى تبدو كعوامل ودوافع هيكلية دائمة ومستمرة منذ زمن طويل.
ولا يبدو في هذا التفسير أي أثر لوجود عوامل أو دوافع خارجة عن إطار هذه الساحة الداخلية، سواء تعلقت بسياسات راهنة لدول غير مسلمة أو بتفاعلات تاريخية، كانت بعض تلك الدول طرفاً مباشراً فيها مع دول ومجتمعات إٍسلامية، فالخارج غير المسلم في تلك النظرية بكل مكوناته السياسية والفكرية والتاريخية ليس فقط غير مسؤول عن تشكل الظاهرة الإرهابية الحالية ذات الصلة بالإسلام، بل هو لدى أصحاب تلك النظرية الضحية الرئيسية لها. ويذهب أصحاب تلك النظرية إلى القول بأن الحديث عن العوامل الخارجية في تفسير نشأة تلك الظاهرة إنما هو محض هروب من المسؤولية الذاتية العربية والإسلامية ومحاولة لإلقائها على الآخر الخارجى الذي ليس له صلة حقيقية بها، فضلاً عن أنه يشكل نوعاً من التبرير لنشأة الإرهاب واستمراره بالصورة الدموية الكريهة التي يبدو عليها اليوم.
فأما ما يتعلق بالدين الإسلامى وتاريخه الطويل، فإن أصحاب تلك النظرية يرون أن أفكار التعصب والإقصاء والتكفير للمختلفين في الرأى والرؤية، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين، إنما هي أفكار متجذرة وشائعة لدى مختلف المذاهب والمدارس والفرق الإسلامية وتمثل جزءاً أصيلاً من بنيتها الفكرية والعملية. ويذهب هؤلاء إلى قراءة مختلف مراحل التاريخ الإسلامى منذ خلافة أبى بكر الصديق باعتبارها تأكيداً لتلك الرؤية، حيث يركزون فيها فقط على الخلافات والصراعات التي شهدتها وبخاصة ما أدير منها بالعنف والقتال بين طوائف المسلمين أنفسهم، ويرون أنها جميعاً نشبت لأسباب تتعلق برؤية كل طرف فيها للآخر من منظور الإقصاء والتعصب والتكفير.
ويذهب هؤلاء بعد ذلك إلى انتقاء أفكار أكثر الفرق والاتجاهات الإسلامية غلواً وتطرفاً لكى يشيعوا أنها تمثل الإسلام الحقيقى بكل اتجاهاته، متجاهلين الحقيقة التي يعرفها كل دارس موضوعى ومحايد لتاريخ الإسلام الفكرى والعملى وهى أن تلك النوعية من الفرق والاتجاهات المغالية بأفكارها وممارساتها ظلت دوماً تمثل الأقلية الهزيلة في المسار العام لهذا التاريخ الذي شكلت مختلف مراحله بجوانبها الفكرية والعملية الفرق والاتجاهات الوسطية المعتدلة التي ضمت دوماً الغالبية الساحقة من المسلمين.
ويبدو واضحاً في تلك الطريقة الانتقائية التعسفية في قراءة التاريخ الفكرى والعملى للإسلام أن أصحابها يحملون قبل الشروع فيها رؤية مسبقة لهذا التاريخ يسعون عبر هذه الطريقة التي لا تمت للموضوعية أو العلمية بصلة إلى إثباتها حتى لو استلزم ذلك لى عنق وقائع وحقائق ثابتة في ذلك التاريخ.
وفى سعى أصحاب هذه النظرية إلى إثبات مسؤولية الإسلام فكرياً وعملياً عن نشوء واستمرار الظاهرة الإرهابية المرتبطة به حالياً، راحوا يسقطون في قراءتهم المتعسفة للخلافات والصراعات التي عرفتها بعض مراحل التاريخ كافة العوامل والسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والشخصية التي أحاطت بها والتى لا يمكن الوصول لتفسير حقيقى لها دون التطرق إليها، مفضلين الاقتصار في تحليلهم لها على ما شملته وأحاط بها من مقولات ونصوص ذات طابع دينى تبناها أطرافها في معظم الحالات لتبرير مواقفهم في تلك الخلافات والصراعات والسعى لإعطائها مسحة شرعية مستمدة من الإسلام.
ويبدو واضحاً في هذه الرؤية مدى تناقضها مع العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة وبخاصة ذات الأصل الغربى، والتى لا ترى في الأفكار بمفردها عاملاً وحيداً محركاً ومفسراً للوقائع التاريخية الكبيرة وتضيف دوماً إليها عوامل أخرى واقعية متعددة، بما يعطى في النهاية تفسيراً مركباً لهذه الوقائع.
كذلك فهذه الرؤية تتناقض مع ما استقرت عليه علوم ومناهج دراسة تاريخ الأفكار وتطورها، وبخاصة علم اجتماع المعرفة، والتى على الرغم من إعطائها بعض الوزن للعوامل الداخلية لتلك الأفكار في تطورها التاريخى، إلا أنها تعطى الوزن الأكبر للعوامل الاجتماعية بمختلف صورها وأشكاله المحيطة بها في تفسير ظهور واختفاء وتطور تلك الأفكار عبر التاريخ.
وللحديث بقية.