«لا صلب بدون يهوذا، ولا قيام بدون صلب، ومن ثم يلزم بالضرورة أن يضحي أحد أبناء القرية ليمثل دور يهوذا»
نيكوس كازانتزاكس، المسيح يصلب من جديد، دار آفاق، ترجمة: شوقي جلال.
1- لا أراكم الله مكروهًا في عزيز لديك
لا توجد مهمة في هذه الحياة أثقل على النفس من نقل خبر وفاة عزيزٍ إلى إنسان يُهمك أمره.
نعالج مثل هذه المهام بوسائلنا ونجتهد في الأمر باختيار أقرب طريقة نراها كفيلة بتجنيب الإنسان أثرَ صدمة استقبال الخبر، أما صدمة الخبر نفسه فإنها تأتي في المقام الثاني، وعادة نترك علاجها للوقت ولانشغالات الحياة، واثقين في قدرتها على تمرير السلوان إلى النفوس لتعود مرة أخرى إلى طبيعتها رويدًا وكأن شيئًا لم يكن، بعد أن ينكمش الحزن إلى مساحته النبيلة؛ غصًّة في القلب وذكرى لا تفارق الخيال.
كل شيء في الدنيا يبدأ صغيرًا وينمو وصولًا إلى نهايته المحتومة، إلا الحزن؛ فإنه يبدأ ثقيلًا كالجبال، ثم تتراجع حدته وتتشظى صورته.
ولكن الحزن ليس كبقية الأشياء التي تنتهي؛ الحزن الأصيل والنبيل لا ينتهي، إنما يتسرب في أنحاء النفس والروح يعيد صياغتهما ليصبح الإنسان بعدهما كائنًا مختلفًا؛ ربما أكثر رقة وإنسانية، أكثر قدرة على الإحساس بالبشر، أشد حرصًا على ترك أثر طيب في الآخرين. وربما اشد إحساسًا بالخوف والعجز واللاجدوى.
الموت هو الفجيعة الكبرى، وتزداد الفجيعةُ ثقلًا عندما تُغيّب ظلالُ الموت عزيزًا قريبًا إلى النفس.
فليفكر كل واحد منا الآن كم كانت صدمته عندما غيب الموت عزيزًا لديه! كم تخيل وقتها أن الحياة توقفت، ومن المحال أن تستمر كما كانت، ربما تخيل البعض أنه لن يعود كما كان قادرًا على الأكل والشرب واللعب وتقبيل الأبناء وتقبل الأصحاب ....!
وليفكر كل منا كيف أن الحياة استمرت، وأن الحزن تحول إلى ندبة في القلب لا يراها أحد، ولا يمكنه هو نفسه حتى أن يتحسسها بأصابعه.
2- هل هذه فلسفة؟
ربما، ولكنها تبقى مجرد كلمات، فنحن كعادتنا نهوى جمع الكلمات، ولكن ثمة آخرين في هذا العالم مهمتهم تحويل الكلمات إلى أفعال.
هناك خبراء مهمتهم تكسير القضايا الكبرى والإشكاليات المصيرية وتمريرها بالطريقة التي يمر بها الحزن، فلا يعود أحد يذكر منها سوى ندبته الخاصة التي بالكاد يشعر بنبضها بين جوانحه عندما يخفت ضجيج الحياة، ولا يستطيع أن يتحسسها بيده.
وكما نلجأ -نحن الأفراد- إلى تلك الحيل النفسية لنستقبل صخرة الحزن العظيم من دون أن تتحطم صدورنُا الهشة، فإن الحكومات تلجأ إلى حيل الخبراء المدروسة لتفادي تحطم صخور قراراتها الخطيرة على صدور الشعوب.
3- سيناريو فانتازي خيالي
تعالوا نفترض هذا الافتراض الفانتازي المغرق في العبث، وهو معالجة لسيناريو خيالي لا علاقة له بالواقع -حتى وأن تشابهت بعض تفاصيله مع ما يحدث في الواقع- فلا هدف منه سوى ما تستهدفه الدراما من تنيبه الغافلين.
«لو أن أحد أنظمة الحكم التي توالت على حكم مصر قرر – لسبب أو لآخر- التطبيعَ مع الكيان الصهيوني»إسرائيل«وإنهاءَ حالة القطيعة الشعبية والثقافية التي لم ينجح نظام في اختراقها رغم»الاتفاقية السياسية«التي تم توقيعها منذ عقود، فماذا على هذا النظام أن يفعل لكي يتفادى تحطم قراره الخطير على صخور الملايين من المصريين الذين لا يحملون في قلوبهم سوى البغض والكراهية لهذه الجارة اللصة؟
عليه أن يلجأ إلى أكبر بيوت الخبرة العالمية المتخصصة في «إدارة تكسير القضايا الكبرى» بالطريقة نفسها التي تتكسر بها صخرة الحزن العظيم؛ تنطلق كبيرة هائلة مدوية، ونسعى فقط أن لا تصطدم بالرأس فتحطمه إلى أن تصبح – كالموت- حقيقة واقعة لا مفر من التسليم بها: صحيح أن الفراق صعب والراحل عزيز. . .، إلا أنها سنة الحياة... وكلنا إلى هذا الطريق، وماذا بأيدينا كي نفعله! فـ «لا دايم إلا الدايم»، والحي أبقى من الميت، ثم انتبه لنفسك وصحتك فأولادك في حاجة إليك، وعجلة الحياة لا تتوقف، ولا تنس أن أمامك مسؤوليات،... ويخفت الموت وتتراجع الفجيعة ويذوي الحزن وتستمر الحياة.
كيف إذن يمكن تطبيق هذا النموذج السحري الذي تعلّمه الإنسانُ بالفطرة والخبرة من تعامله مع ثنائية الحياة/ الموت، على قضية بهذه الخطورة؟
كيف نجعل الشعب المصري يتقبل فكرة التطبيع مع كيان ديني متعصب مغلق وإرهابي، يحتل أرض شعب ويمارس ضده القتل والتعذيب، ويطمع في أراضي شعوب أخرى ليقيم عليها دولته العنصرية الكبرى؟
- كيف... إنه بلا شك أمر خطير، فالمصريون لن يقبلوا ذلك، ستكون بلا شك صدمة أشد من صدمة الموت.
- يا رجل، إذا كانت على صدمة الموت فبسيطة. الخبراء رصدوا الفكرة وحولوها إلى تطبيق.
حَرِّك الصخرة، دحرجها ولا تنتظر، ولكن انتبه؛ لا توجهها نحو الناس مباشرة، اختر لك وسيطًا يحارُ الناس في أمره، يجمع بين الجنون والأهمية، له شعبية كبيرة صُنعت وفق استراتيجيات مدروسة على مدار سنوات، ويا حبذا لو نجح بعد ذلك في انتزاع صفةً شبه رسمية، بالطبع ليس وزيرًا ولا عضوًا في الحكومة، لا، ولا مستشارًا للرئاسة، اتركه في ملعب الشعب، فليكن أحدَ نوابه، ولا تقلق فسوف ينجح ويمر، نحن نعرف الشعب جيدًا، سيصبح نائبًا من نواب الشعب وبمجموع أصوات كبير، إنه شعب طيب ولا يقرأ، لا يبني رؤاه إنما يتبنى رؤى الأكثر حضورًا في الإعلام.
حسن، الخطوة التالية، اشغل الناسَ ببعض القضايا الفرعية، أدخل معه إلى المجلس بعض الأراجوزات الآخرين، لا أطلب منك التزوير، نحن قوم نحترم الأخلاق والديمقراطية، ولكن لا تقلق؛ الشعب سوف يختارهم، فقط اعرضهم عليه فيختارهم.
وتأكد أن معظم بقية نواب الشعب سوف يكونون من البسطاء الذين ما زالوا يعتقدون أن المجلس وسيلة للوجاهة الاجتماعية أو تحقيق بعض المصالح وأداء بعض الخدمات.
الآن صار الوقت مناسبًا، قبل أن تستقر الأمور، على النائب المحترم أن يقوم ببعض الأكروبات التي تجعل الناس يعتقدون أنه المعارض الكبير والضحية الكبرى، سوف يصدقونه، لا تقلق، نحن نعي ما نقول. فقط عليه أن يثير بعض المعارك الكلامية، ويجترح بعض المشادات ليتمكن بعدها من التصريح بما يريد، فيظن الناس أنه يعلم ما لا يعلمون... ثم تصبح الصورة جاهزة.
سوف يدعو النائبُ القدير السفيرَ إلى الغداء في منزله.
- أي سفير؟
- سفير «إسرائيل»
- ماذا؟ لن يسكت الناس.
قلنا، الناس ليسوا قضيتنا، الموضوع مدروس، ونحن نعرف ما نقول. لا يوجد قانون لديكم ليعاقبه على استضافة سفير دولة رسمية. سواء بصفة شخصية أو حتى كنائب في البرلمان، وبالتالي فإنه لن يقع تحت طائلة القانون، ولن يضار مركزه تحت القبة مما يجعل اللعبة تستمر لتجهيز الناس حتى الانتقال إلى الخطوة التالية، في هذه المرحلة سوف تنشغل وسائل الإعلام بدراسة هذه الفكرة، وتتعلى الصيحات: أين القانون، من يحاسب. . .، كيف لا يوجد طريقة لمحاسبة هذا الـ. . .، كيف تقابل الحكومة هذا الأمر بالصمت؟... وغير ذلك، لا بأس، هذا أمر إيجابي.
من خلال دراستنا المتأنية للشخصية المصرية نحن على ثقة بأن بعض العاطفيين والمنفعلين سوف يقومون بأفعال تزيد من تهيئة الأجواء لتجاوز الصدمة والتعامل مع الخبر؛ أن يضربه أحدهم في الشارع «علقة موت»، ويا حبذا لو كان تحت قبة البرلمان؟
مبدئيًا نتوقع أن يتم الأمر تحت قبة البرلمان فهي لا تخلو من انفعاليين، ونتوقع أن يكون الضرب بالحذاء –نقصد الجزمة- لأننا نعرف أنها الإهانة الأشد التي يمكن توجيهها لرجل وفق ثقافة المصريين.
لا تقلق، فالنائب القدير مدرب على التعامل مع هذه الأمور، ولن يفسد الخطة، سوف يُبقي الخيط متوترًا، لا يحل القضية ولا يُعقدّها حتى لا نفقد هدفنا: تجاوز الصدمة والتعامل مع الواقع، وصولًا إلى تطبيع القضية في الشارع بالطريقة نفسها التي يتطبع بها الناس مع الموت، حتى لا يصاب أحدهم بمكروه من أثر الصدمة، فأنت تعرف نحن قوم ملتزمون بأخلاق المهنة ونراعي مشاعر الناس«.
وبلّغ سلامي للدراما وكتاب السيناريو العظام.
[email protected]