x

عبد الناصر والجماعة.. من الوفاق إلى الشقاق: الملك فاروق يعيد الجماعة إلى الشارع ليضرب بها حزب الوفد (2)

الخميس 07-10-2010 08:00 | كتب: اخبار |
تصوير : other

اعترافات : المستشار الدمرداش العقالى

سجَّلها بقلمه : سليمان الحكيم

قبل أن تقرأ..

ظلت العلاقة بين عبدالناصر والإخوان المسلمين تمثل واحداً من أكثر الألغاز إثارة فى تاريخ مصر المعاصر.. ولقد طغت الخصومة - بل العداء - بين الفريقين، حتى أصبحت هى الأغلب على وصف العلاقة بينهما.. رغم ما يُجمع عليه المؤرخون من وجود علاقة ارتباط لعبدالناصر بجماعة الإخوان فى مرحلة مبكرة من تاريخه السياسى.. ولكن أحداً منهم لم يقف طويلاً عند تلك المرحلة فى تاريخ العلاقة بين الطرفين ليكشف لنا أسرارها ويحل ألغازها ليساعدنا على الإجابة عن العديد من الأسئلة المهمة والخطيرة، مما ينعكس بآثاره على المرحلة الحالية فى تاريخنا السياسى.

من هنا كانت محاولتى بحثاً عمن يستطيع الكشف عن أسرار تلك العلاقة بين عبدالناصر والإخوان، حتى عثرت عليه.. إنه المستشار الدمرداش العقالى، الذى كان أحد أبرز أعضاء الجهاز السرى فى تنظيم الإخوان المسلمين.. وزعيم الطلبة الإخوان بالجامعة، فى الوقت الذى كان قد تبلور فيه نشاط الإخوان كحركة سياسية حتى كاد أن ينحصر فى مجال الشباب والطلبة، حتى أصبحت -أو كادت أن تصبح- حركة الإخوان المسلمين «حركة طلابية».. وهو - العقالى - فوق ذلك، يمت بصلة القرابة للزعيم الإخوانى الأشهر - سيد قطب - صاحب أكبر تأثير فكرى وتنظيمى فى جماعة الإخوان، ربما أكبر من مؤسسها حسن البنا نفسه. وقد كان سيد قطب خال زوجة العقالى، كما كانا - العقالى وقطب - صديقين فى مرحلة الطفولة والشباب وذلك لانتمائهما إلى بلدة واحدة هى أسيوط.. هذا فضلاً عن أن العقالى كان قد انخرط فى صفوف الإخوان قبل أن ينضم إليها سيد قطب نفسه.

لهذا كله كان المستشار العقالى فى الموقع الذى يسمح له ليس فقط برؤية الأحداث عن قرب، بل المشاركة فيها بفاعلية وتأثير.

ولعل اعترافاته التى أدلى بها لى فى هذا التحقيق تلقى ببعض الضوء الذى نحتاجه للتأريخ لتلك الفترة الحساسة من حياتنا السياسية. وأرى أنه ينبغى علينا أن نأخذ ما يقوله الرجل فى هذه الاعترافات بما هو جدير به من اهتمام وتفكير، خاصة أنه يفجر الكثير من المفاجآت التى تقلب - بل ربما تعدل - الكثير من الأمور التى ظللنا نتعامل معها كمسلّمات تاريخية.

الدمرداش: الورشة السرية رفضت الهضيبى

متى بدأ تنظيم الضباط الأحرار وما هو تاريخ ميلاده الصحيح؟

لقد حاول الكثيرون الإجابة عن هذا السؤال، فقال بعضهم إنه ولد فى أعقاب حادث 4 فبراير الشهير وكرد فعل مباشر له، وقال آخرون إنه بدأ فى أعقاب نكبة 1948 وكنتيجة حتمية لها.

أما المستشار الدمرداش العقالى، فيؤكد أن تنظيم الضباط الأحرار ولد عام 1949، أى قبل قيام الثورة بثلاث سنوات تقريباً، وأنه ولد على يد جمال عبدالناصر الابن الشرعى لتنظيم الإخوان المسلمين، وتنفيذاً لوصية المرشد العام حسن البنا له ولكل قيادات التنظيم بضرورة الإسراع بقيام الثورة التى قدر البنا عام 1955 موعداً لقيامها.

كما يؤكد الدمرداش العقالى أن جمال عبدالناصر الذى آلت إليه قيادة الإخوان المسلمين بعد مقتل حسن البنا ودخول عبدالرحمن السندى المعتقل، هو عبدالناصر الذى شرع فى تشكيل تنظيم الضباط الأحرار داخل الجيش، مؤلفاً من عدة تنظيمات وخلايا سرية أخرى، بالإضافة إلى الضباط الذين كان يضمهم تنظيم الإخوان المسلمين، وذلك لأن جمال عبدالناصر- كما يؤكد المستشار العقالى- كان مقتنعاً بأن الثورة التى يخطط للقيام بها أكبر من أن يضطلع بها تنظيم واحد مهما بلغت قوته، وأن مهمة التغيير التى يسعى إليها أخطر من قدرة أى تنظيم على حدة.

ولكن عبدالمنعم عبدالرؤوف، أحد زملاء عبدالناصر فى تنظيم الإخوان المسلمين، رفض فكرة عبدالناصر بضرورة التوسع فى التنظيم الثورى، وفتح أبوابه أمام عناصر أخرى من غير المؤمنين بفكرة «الحل الإسلامى» على طريقة الإخوان المسلمين.. فماذا كان موقف عبدالناصر إزاء هذا الرفض؟

يقول المستشار الدمرداش العقالى:

- طلب جمال عبدالناصر من زميله عبدالرؤوف ألا يكون ضدهم فى تنفيذ فكرتهم بضم عناصر أخرى إلى التنظيم الثورى من ذوى الميول السياسية الأخرى كالماركسيين أو غيرهم، ثم إذا جد الجد وقامت الثورة ورأت قيادتها دعوة عبدالمنعم عبدالرؤوف للمشاركة فيها، فلا يمانع، وقد وافق عبدالمنعم على شروط عبدالناصر، وقرر اعتزال التنظيم الجديد «الضباط الأحرار» مفضلاً الترقب من بعيد.

بين الوفد والإخوان

فى يوم 3 يناير 1950 أجريت الانتخابات البرلمانية فى مصر، وهى آخر انتخابات أجريت فى عهد فاروق، وقد نجح فيها حزب الوفد نجاحاً ساحقاً، بعد أن حصل على 87٪ من عدد المقاعد التى جرت الانتخابات عليها، وقد أثارت هذه الأغلبية الكاسحة الرعب فى نفس فاروق، الذى كان عداؤه الشديد للوفد أمراً لا يقوى على إخفائه.. فجمع مجلس البلاط الذى كان فاروق يستشيره فى أموره الخاصة حين تشتد به الأزمات، وكان مجلس بلاطه مكوناً من ناظر الخاصة الملكية محمد نجيب سالم باشا، ومحمد العشماوى باشا، وزير المعارف الأسبق، وهو معلم فاروق، الذى أشرف على تعليمه حين كان يتلقاه فى مدارس لندن وجامعاتها، أما الثالث فهو رجل الدين البارز محمد عبداللطيف دراز، وكان وكيلاً للأزهر، كما كان قطباً من أقطاب الحزب «السعدى» المناوئ لحزب الوفد.. هذا الثالوث هو الذى كان سبباً فى نكبة مصر فى ذلك الوقت.. كيف؟

حيث اشتكى لهم الملك مخاوفه من مجىء الوفد إلى الحكم، فاقترح عليه محمد عبداللطيف دراز والعشماوى ونجيب سالم أن يعيد الإخوان المسلمين إلى الساحة ليحدث التوازن مع الوفد، وبهذا نرى أن عملية التوازن فى الشارع السياسى بين شد وجذب، وهى التى لجأ إليها السادات فى آخر أيامه، كان فاروق قد سبقه إليها حين أعاد الإخوان المسلمين إلى الساحة السياسية، ليوازن بهم الوفد بعد نجاحه فى آخر انتخابات برلمانية أجريت فى عهده.

الباقورى والإخوان

قلنا إن مجلس البلاط الملكى اقترح على فاروق إعادة الإخوان ليسحبوا الشعبية من حزب الوفد، لأنهم، كما أكدوا له، الوحيدون القادرون على ذلك، بما لهم من شعبية كاسحة تعادل إن لم تزد على شعبية الوفد.

اندهش فاروق لدى سماعه اقتراح مجلس البلاط بإعادة الإخوان والسماح لهم بالعمل، خاصة أن فاروق هو الذى كان قد دبر وأمر باغتيال حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين، ومن هنا كانت دهشته وهو يستمع لاقتراح مجلس البلاط، فقد استبعد فاروق أن يؤازره الإخوان، وهو قاتل مرشدهم، فى موقفه ضد حزب الوفد، ولكن مجلس بلاطه أكد له أن جماعة الإخوان قد ربيت على السمع والطاعة للمرشد العام لجماعتها، فإذا نجحوا فى تعيين مرشد جديد للإخوان المسلمين يدين بالولاء للملك، فإنهم يكونون بذلك قد نجحوا فى استيعاد الإخوان المسلمين والاتجاه بحركتهم إلى صف الملك.

انبرى الشيخ عبداللطيف دراز، وكيل الأزهر مستشار الملك، عضو مجلس البلاط قائلاً: إنه لديه المرشد الذى يدين لجلالة الملك بالولاء الشديد، وحين سأله عن اسم المرشح لزعامة الإخوان قال له دراز: إنه الشيخ أحمد حسن الباقورى!

كان الباقورى زوج ابنة عبداللطيف دراز وهو وكيل المرشد العام السابق المرحوم حسن البنا، أى أنه يقف بإحدى قدميه فى الإخوان المسلمين وبالأخرى فى البلاط الملكى!

وبالرغم من أن الباقورى كان وكيلاً للمرشد العام، حسن البنا، فإنه لم يكن يعلم شيئاً عن الأمور الخاصة للتنظيم، وأهمها التنظيم الخاص أو الجهاز السرى، فالباقورى كان وكيلاً لصاحب «المعرض» أما «الورشة»- أو الجهاز الخاص- والتى تكمن فيها القوة الحقيقية للإخوان المسلمين فلم يكن للباقورى أى علم بما يدور فيها، ومن هنا كان الشيخ الباقورى شديد النقمة على المرشد العام حسن البنا، لأنه أخفى عنه «جبل الثلج» الذى لم يكن الباقورى يرى منه غير قمته الطافية فوق السطح فقط، أما قاعدته الكبيرة التى يرتكز عليها فى قاع المحيط، فلم يكن البنا يسمح لأحد غيره بالاقتراب منها والاطلاع عليها.

وحين اكتشف الباقورى وجود هذا التنظيم الخاص وأدرك حجم قوته، استشاط غضباً من حسن البنا، حين استشعر أن البنا كان يستغله أو لا يمنحه الثقة التى كان يرى أنه جدير بها كوكيل له.

وكان الشيخ عبداللطيف دراز- ولا شك- يعلم بالمشاعر غير الودية التى كان يكنها الشيخ الباقورى لحسن البنا نتيجة لذلك، ومن هنا كان يرى أن اختياره للباقورى، ليحل محل البنا فى زعامة الإخوان هو الاختيار الموفق، الذى يضمن به تحويل الإخوان المسلمين إلى جماعة مؤيدة ومستأنسة، على خلاف ما كانت عليه فى عهد زعيمها السابق حسن البنا.

لم يكن الباقورى من القيادات الإخوانية التى شملتها عملية الاعتقال الأخيرة، وحين استدعاه الشيخ دراز ليعرض عليه زعامة الإخوان طلب الباقورى مهلة من الوقت يستكشف خلالها رأى مكتب الإرشاد فى أمر ترشيحه زعمياً للإخوان.

وكان مكتب الإرشاد مكوناً من عدد من أقطاب الإخوان منهم الشيخ الغزالى-رحمه الله- وعبدالرحمن البنا شقيق حسن البنا، وصالح عشماوى، وكان هؤلاء الثلاثة أبرز الأعضاء فى مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، وكانوا جميعهم معتقلين فى معتقل «الهايكستب» شرق القاهرة.

وحين ذهب إليهم الباقورى ليسألهم رأيهم فى تعيينه مرشداً عاماً للإخوان، خاصة أنه وكيل المرشد العام، قال له الغزالى: إننا لا نستطيع أن نأكل عيش السراى!

ومعروف أن «عيش السراى» هو نوع من الحلويات، وقد أرادها الغزالى كناية واضحة عن علاقة الباقورى بالسراى أو الملك فاروق!

وقد فهم الباقورى ما كان يرمى إليه الشيخ الغزالى من وراء عبارته، وأيقن أنه لا قبل له بمعاداة مكتب الإرشاد أو «رجال المعرض» حتى لا يفقدهم، خاصة أنه فاقد فعلاً «لرجال الورشة» التى لا يعلم عنها شيئاً.

لهذا رأى الباقورى أنه ليس من مصلحته أن يفعل شيئاً ينتقل به إلى صفوف الأعداء فى مواجهة الإخوان المسلمين. فذهب إلى الشيخ دراز ليقول له إنه لا يستطيع أن يرأس الإخوان على غير رغبة من رجال مكتب الإرشاد، ولكنه قدم بدلاً منه رجلاً آخر ليقوم بهذه المهمة «وهو لا يقل عنى ولاء» لجلالة الملك، كما قال الباقورى.

الهضيبى رجل الملك

وكان المرشح الجديد هو المستشار حسن الهضيبى، الذى لم يكن عضواً فى جماعة الإخوان حتى ذلك الوقت، وإنما كانت تربطه علاقة طيبة بمرشدها العام المرحوم حسن البنا.

وكان مأمون الهضيبى، المتحدث الرسمى باسم الإخوان الآن، وابن حسن الهضيبى، متزوجاً بابنة محمد نجيب باشا سالم ناظر الخاصة الملكية، أى أن لهم قدماً فى البلاط الملكى، وتبقى الأخرى طليقة انتظاراً لوضعها على أرض الإخوان المسلمين!

حين سمع محمد نجيب باشا سالم بترشيح الباقورى للمستشار حسن الهضيبى ليكون مرشداً عاماً للإخوان المسلمين، قال نجيب باشا إن الهضيبى ليس موالياً فقط للملك فاروق، بل كان موالياً أيضاً لأبيه الملك فؤاد الذى يدين له الهضيبى بتعيينه قاضياً بعد أن كان محامياً.

حينما جرت الانتخابات البرلمانية عام 1924- فى عهد الملك فؤاد- نجح فيها عدد كبير من القضاة، فانتقلوا نواباً بمجلس النواب، وخلت بذلك أماكنهم فى السلك القضائى، فأراد سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئيس الحكومة فى ذلك الوقت، أن يعين عدداً من القضاة، بدلاً من القضاة الذين نجحوا كنواب فى البرلمان، ولكن الملك فؤاد رأى أن تعيين القضاة حق له وحده، بصفته رئيساً للسلطات الثلاث، بما فيها السلطة القضائية، وحدثت أزمة بين فؤاد وسعد زغلول، حين رأى كل منهما أن له الحق فى تعيين القضاة، وبتدخل الوسطاء من أهل الخير تنازل سعد زغلول للملك فؤاد. فأصدر فؤاد مرسوماً ملكياً بتعيين عدد من المحامين كقضاة بعدد الذين خلت دوائرهم، وكان حسن الهضيبى واحداً من هؤلاء، الذين شملهم المرسوم الملكى لفؤاد، فأصبح قاضياً بأمر من الملك فؤاد بعد أن كان محامياً، ولهذا ظل الهضيبى يدين بالولاء للملك فؤاد حتى وفاته، ثم أصبح ولاؤه لابنه الملك فاروق من بعده.

المؤامرة المحبوكة

وبعد أن حكى نجيب باشا ناظر الخاصة الملكية هذه القصة عن صهره حسن الهضيبى، استحسن الملك فاروق الاقتراح بترشيحه زعيماً جديداً للإخوان المسلمين، ورأى أنه الشخص المناسب الذى يمكن أن يقود قاطرة الإخوان ليقف بها فى محطة القصر الملكى..!

بعد أن لقى المستشار حسن الهضيبى الموافقة المطلوبة، تكفل الشيخ أحمد حسن الباقورى بترويجه فى سوق الإخوان المسلمين غير المعتقلين، فكان الباقورى يأتى إلى الإخوان المسلمين من كبار السن فيقول لهم إن حوادث القتل والإرهاب أحدثت فزعاً فى نفوس المواطنين وأوجدت الخوف والرعب لدى الناس من الإخوان المسلمين، وأصبح لزاماً علينا الآن أن نختار قيادة مسالمة ذكية وقورة، إلى آخر الصفات التى يمكن أن تنطبق على حسن الهضيبى، الذى كان الباقورى يطرح اسمه، بعد أن يجد الموافقة لدى هؤلاء على فكرته.

أما آباء المعتقلين من شباب الإخوان فكان الباقورى يأتى إليهم ويقول لهم إن أبناءهم لن يخرجوا من معتقلات الحكومة إلا إذا جاء المستشار حسن الهضيبى زعيماً للإخوان، فهو على علاقة طيبة بالملك والقصر، كما أنه على علاقة طيبة بالإخوان، ولهذا فهو الوحيد الذى يمكنه عقد المصالحة بين الحكومة والإخوان، والتى فى إطارها يمكن أن تفرج الحكومة عن المعتقلين فى السجون من شباب الإخوان.

واستطاع الباقورى، وفقاً لهذا المنطق التصالحى والمصلحى، أن يحصل على موافقة أولئك الآباء الذين كان يضنيهم كثيراً وجود أبنائهم فى المعتقلات، انتظاراً للمصير المجهول.

كذلك طرح الباقورى فى إطار خطته لترويج المستشار حسن الهضيبى فى أوساط الإخوان، فكرة أن وجود رجل قانون مثل المستشار حسن الهضيبى على رأس الإخوان المسلمين، سوف يكون عاملاً مهماً فى إزاحة ما علق فى أذهان الناس من وصف الإخوان بالإرهاب والخروج على القانون، بعد أن أصبح زعيمهم ومفكرهم وقائدهم ورجل قانون مستشاراً فى الهيئة القضائية.

وأخيراً.. نجح الباقورى فى إقناع غالبية الإخوان الذين كانوا قد عانوا الكثير فى المعتقلات من جراء حوادث القتل والعنف، كما عانوا من الإجراءات التعسفية التى قامت بها الحكومة حيالهم بعد تلك الحوادث، فراحت نفوسهم اليائسة والتعبة تبحث لها عن مخرج من هذه الأزمة، التى طال مكوثهم فيها نتيجة للعنف والعنف المضاد بينهم وبين الحكومة.. وأخيراً وجدوا هذا المخرج لهم من أزمتهم الطاحنة فى الفكرة التى كان يروج لها الشيخ الباقورى بدأب وذكاء، وهى تعيين المستشار حسن الهضيبى زعيماً للإخوان المسلمين.

الورشة ترفض

استطاع الشيخ الباقورى أن يعقد البيعة للمستشار الهضيبى، من بعض «رجال المعرض»، أما «رجال الورشة» السريون وهم عصب الإخوان وقوتهم، فقد رفضوا مبايعة الهضيبى أو أى أحد غيره، وقد أصدر زعيمهم عبدالرحمن السندى، من معتقله، تعليماته المشددة إلى أعضاء جهازه الخاص بأن يتجنبوا الدخول فى لعبة اختيار مرشد جديد للإخوان، قبل أن يسمح للجماعة بممارسة نشاطها الشرعى، وكان الهدف من ذلك، كما هو واضح فى رأى عبدالرحمن السندى، ألا يكون المعتقل ورقة للضغط على الإخوان ليقبلوا بالبيعة للمرشد الجديد.

والأكثر من ذلك أن عبدالرحمن السندى أكد لأعضاء جهازه الخاص أن المرشح الجديد حسن الهضيبى ما هو إلا عميل لفاروق.. وقد أكد الهضيبى نفسه هذا المعنى حين قابل فاروق بعد حصوله على مبايعة الإخوان له، وخرج من تلك المقابلة ليصفها للصحفيين بأنها «مقابلة كريمة من ملك كريم».. وقد نشرت جميع الصحف الصادرة فى يناير 1951 هذا التصريح الذى أكد فيه الهضيبى ولاءه للملك فاروق دون مواربة أو تردد.

وقد بكى كثير من أعضاء الجهاز الخاص لدى سماعهم تصريح الهضيبى الذى أثنى فيه على الملك فاروق.. وقالوا: لقد قتل فاروق مرشدنا، ليصطنع لنا مرشداً من عنده..!

ساعة الصفر

لم يشأ الجهاز الخاص وأعضاؤه فى ظل هذه الظروف أن يفجروا الخلاف حتى لا ينكشف أمرهم، وكان الجهاز السرى، حتى ذلك الوقت، مجرد عفريت يسمع الناس عنه ولا يرونه. وظلت قواعده تتداول المعلومة القائلة بأن حسن الهضيبى هو رجل فاروق.. إلى أن جاء موعد قيام الثورة، وكان آخر اجتماع تمهيدى قبل قيام الثورة، عقده جمال عبدالناصر فى بيت عبدالرحمن السندى، قائد التنظيم السرى، أو الجهاز الخاص للإخوان المسلمين، وكان ذلك يوم 17 يوليو 1952.

وكان الاجتماع بعيداً عن أعين الضباط الأحرار، لوضع اللمسات الأخيرة على سيناريو التحرك ليلة الثورة، وما يجب عمله لنجاحها.

بين الثورة.. والحركة

وقد ناقش السندى وعبدالناصر فى هذا الاجتماع كل شىء بالتفصيل، حتى الاسم، وحينما جاء الوقت لمناقشة اسم العملية طرح عبدالناصر اسم «الثورة المباركة»، ولكن السندى خالفه فى ذلك معترضاً، وطلب تسميتها «الحركة المباركة»، لأن الحس الإسلامى لا يستريح لكلمة ثورة، التى لازمت جماعة الخوارج الشهيرة طوال تاريخهم.

الثورة إخوانية

ومن ضمن ما أكده عبدالرحمن السندى فى هذا الاجتماع مع عبدالناصر، هو أن تتسم أول قرارات الحركة المباركة بالانحياز إلى الإخوان المسلمين فى بعض القضايا المعلقة، مثل الإفراج الفورى عن جميع المعتقلين من الإخوان المسلمين، واستثناء المعتقلين الشيوعيين والماركسيين من قرار الإفراج.. والقبض على إبراهيم عبدالهادى، رئيس الوزراء السابق وتقديمه إلى المحاكمة بتهمة التدبير لقتل حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين، وفى المقابل يصدر القرار الفورى بالإفراج عن أعضاء الإخوان المتهمين بقتل محمود فهمى النقراشى، رئيس الوزراء الأسبق الذى قتله الإخوان.

وكان من شأن هذه القرارات، كما رأى عبدالرحمن السندى، وصدورها كأول قرارات للحركة الجديدة، أن تشعر الرأى العام فى مصر والعالم بأن الحركة الجديدة تنتمى بشكل واضح إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وفضلاً عن ذلك كله، طلب عبدالرحمن السندى من جمال عبدالناصر فى حال نجاح الثورة وانتقال السلطة إلى يدها، أن يصدر أمر باعتقال حسن الهضيبى، ضمن من سوف تصدر الأوامر باعتقالهم من رؤساء الأحزاب والسياسيين.

ولكن رؤية عبدالناصر لهذا الأمر كانت أكثر نفاذاً من رؤية السندى، حين قال عبدالناصر له معترضاً إن مياهاً كثيرة قد تدفقت فى النهر، وكان عبدالناصر يقصد بذلك تلك الألوف الكثيرة التى انضمت إلى حركة الإخوان إثر حرب فلسطين، ولم يكن لتلك الأعداد الكبيرة أى علاقة أو علم بالجهاز الخاص، ولا ولاء لها إلا للمرشد المعلن، فهى تنتمى «للمعرض» ورئيسه، ولا علاقة لها «بالورشة»، وما يحدث فيها.

وأضاف عبدالناصر توضيحاً لرأيه أن حسن الهضيبى قد نجح فى استقطاب أعداد كبيرة من صفوف الإخوان، الذين انضموا حديثاً إلى الإخوان، خاصة بعد أن رأوا الحكومة تغض الطرف عن نشاطهم المعلن، وأن الهضيبى يستقبل المئات منهم فى المسجد المواجه لبيته فى «الروضة».

وقد رأى عبدالناصر أن القبض على حسن الهضيبى سوف يفسد الانطباع لدى الرأى العام بأن الحركة الثورية الجديدة هى حركة الإخوان المسلمين.. وكان رأى عبدالناصر بذلك هو الأصوب من رأى عبدالرحمن السندى الذى لم يكن يرى فى تلك اللحظة غير تصفية حساباته مع فاروق قاتل الشيخ البنا، وذلك فى شخص حسن الهضيبى.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية