ظلت العلاقة بين عبدالناصر والإخوان المسلمين تمثل واحداً من أكثر الألغاز إثارة فى تاريخ مصر المعاصر.. ولقد طغت الخصومة - بل العداء - بين الفريقين، حتى أصبحت هى الأغلب على وصف العلاقة بينهما.. رغم ما يُجمع عليه المؤرخون من وجود علاقة ارتباط لعبدالناصر بجماعة الإخوان فى مرحلة مبكرة من تاريخه السياسى.. ولكن أحداً منهم لم يقف طويلاً عند تلك المرحلة فى تاريخ العلاقة بين الطرفين ليكشف لنا أسرارها ويحل ألغازها ليساعدنا على الإجابة عن العديد من الأسئلة المهمة والخطيرة، مما ينعكس بآثاره على المرحلة الحالية فى تاريخنا السياسى.
من هنا كانت محاولتى بحثاً عمن يستطيع الكشف عن أسرار تلك العلاقة بين عبدالناصر والإخوان، حتى عثرت عليه.. إنه المستشار الدمرداش العقالى، الذى كان أحد أبرز أعضاء الجهاز السرى فى تنظيم الإخوان المسلمين.. وزعيم الطلبة الإخوان بالجامعة، فى الوقت الذى كان قد تبلور فيه نشاط الإخوان كحركة سياسية حتى كاد أن ينحصر فى مجال الشباب والطلبة، حتى أصبحت -أو كادت أن تصبح- حركة الإخوان المسلمين «حركة طلابية».. وهو - العقالى - فوق ذلك، يمت بصلة القرابة للزعيم الإخوانى الأشهر - سيد قطب - صاحب أكبر تأثير فكرى وتنظيمى فى جماعة الإخوان، ربما أكبر من مؤسسها حسن البنا نفسه. وقد كان سيد قطب خال زوجة العقالى، كما كانا - العقالى وقطب - صديقين فى مرحلة الطفولة والشباب وذلك لانتمائهما إلى بلدة واحدة هى أسيوط.. هذا فضلاً عن أن العقالى كان قد انخرط فى صفوف الإخوان قبل أن ينضم إليها سيد قطب نفسه.
لهذا كله كان المستشار العقالى فى الموقع الذى يسمح له ليس فقط برؤية الأحداث عن قرب، بل المشاركة فيها بفاعلية وتأثير.
ولعل اعترافاته التى أدلى بها لى فى هذا التحقيق تلقى ببعض الضوء الذى نحتاجه للتأريخ لتلك الفترة الحساسة من حياتنا السياسية. وأرى أنه ينبغى علينا أن نأخذ ما يقوله الرجل فى هذه الاعترافات بما هو جدير به من اهتمام وتفكير، خاصة أنه يفجر الكثير من المفاجآت التى تقلب - بل ربما تعدل - الكثير من الأمور التى ظللنا نتعامل معها كمسلّمات تاريخية.
العقالى: عبدالناصر نبتة «إخوانية»
جميع المصادر التى أرّخت للعلاقة بين عبدالناصر والإخوان المسلمين أكدت وجود تلك العلاقة بينهما، والتى تزيد تعمقاً عند البعض فيصل بها إلى قمة التنظيم، بينما يحاول البعض الآخر تهميشها فيصل بها إلى حد التوافق فى اتجاه الرغبة فى التغيير وليست علاقة تواصل أو تلاحم فى الحركة التنظيمية، والصحيح أن جمال عبدالناصر حسين لم يكن فقط جزءاً من حركة الإخوان المسلمين، من حيث العمل الثورى، بل هو نبتة إخوانية منذ الأساس، ولدىّ على ما أقوله أكثر من دليل.
من مجمل ما كتب تأريخاً لثورة يوليو أن التذمر الذى بدأ يتسرب إلى نفوس الضباط بالجيش المصرى، من جيل عبدالناصر وما قبله أو بعده بقليل، هذا التذمر خرج إلى دائرة النور، بعد أن كان مجرد حالة نفسية على إثر حادث 4 فبراير الشهير، وهو ذلك اليوم الذى حاصرت فيه القوات البريطانية القصر الملكى بالدبابات لتفرض على ملك مصر تعيين النحاس باشا رئيساً للوزراء، بدلاً من حسين سرى.
كان ذلك عام 1942، وهو العام الذى وصل فيه الشارع المصرى إلى قمة التهيؤ للتغيير، وكانت الحالة السياسية فى ذلك الوقت تتأرجح بين ثلاثة عوامل للتغيير، وثلاثة أخرى للتثبيت، فالملك والاحتلال والإقطاع هى العوامل التى كانت تدعو لتثبيت الأوضاع على ما كانت عليه، وقد كانت تلك العوامل الثلاثة متحالفة فى رغبتها تجاه الإبقاء على الحالة السياسية السائدة.
للتاريخ كانت أكثر الحركات نشاطاً فى ذلك الوقت حركة الإخوان المسلمين، والوثائق التى تؤرخ لتلك الفترة تؤكد أن الإخوان كانوا قد وصلوا فى حركتهم إلى أطر جديدة، فقد كانت أول حركة وطنية تستقطب فى أطرها الأجيال المختلفة، ولا تقتصر على «جيل الآباء» وحده، بعد أن كانت الأحزاب القديمة كلها تتعامل مع ذلك الجيل.
ولكن جاءت حركة الإخوان المسلمين لتتواصل مع الشباب الذين استقطبتهم فى حركة أطلقوا عليها اسم «الجوالة» ينتظم فيها الأبناء من سن عشر سنوات وحتى السادسة عشرة، وحركة أخرى اسمها «الإخوان العاملين» ينتظم فيها الأعضاء بين سن السادسة عشرة والأربعين، ثم حركة «الإخوان المنتسبين» التى تضم الشيوخ فوق سن الأربعين.
ومعروف أن حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين ومؤسس الحركة، كان قد استطاع فى عام 1938 أن يشكل نواة «الجهاز الخاص» أو ما سمى على ألسنة بعض خصوم الإخوان بـ«التنظيم السرى»، وكان حسن البنا يعنى بـ«الخصوصية» التى أطلقها وصفاً للتنظيم الجديد أن يستخلص مجموعة من الشباب تعطى ولاءها للدعوة، وقدرتها على العطاء دون انتظار للأخذ، فى الحقل الذى توجههم فيه قيادة الحركة، سواء أكان سلمياً أم عسكرياً.
إن حركة بهذه القدرة، على مستوى الأجيال استوعبت الصغير والكبير، وعلى مستوى الحركة استوعبت السرى والعلنى، وعلى مستوى العمل استوعبت السلمى والعسكرى، كانت هى الحركة الفاعلة وبالتالى فإنه عندما أحس الضباط المصريون بالرغبة فى التغيير عام 1942، كان منطقياً أن ينصرفوا بأذهانهم إلى أكثر الحركات قدرة على معاونتهم لإحداث التغيير. ولهذا فإنه من الثابت أن اليوزباشى جمال عبدالناصر حسين قد انخرط فى صفوف الإخوان المسلمين عام 1942 مشكلاً مع عبدالمنعم عبدالرؤوف وأبوالمكارم عبدالحى ومحمود لبيب الجهاز الخاص للإخوان المسلمين فى الجيش.
ولم يكن اسم الضباط الأحرار قد ظهر بعد، فكان هذا التشكيل السرى فى الجيش الذى انخرط فيه عبدالناصر مجرد فرع لـ«الجهاز الخاص» الذى أسسه حسن البنا عام 1938 برئاسة عبدالرحمن السندى الذى كان لا يزال فى ذلك العام طالباً بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول، أو جامعة القاهرة كما تسمى الآن، وقد بايع «جمال عبدالناصر» حسن البنا المرشد العام للحركة بنفس الطريقة التى بايعه بها أى عضو آخر فى التنظيم أو الحركة، وأصبح جمال عبدالناصر منذ ذلك الوقت من عام 1942 عضواً عاملاً فى جماعة الإخوان المسلمين.وقد عمل عبدالناصر فى السودان
فى الوقت الذى وضحت فيه نوايا الإنجليز لفصل السودان عن مصر، مما ترك أثراً سيئاً فى نفوس الشباب من الضباط المصريين، وكان عبدالناصر واحداً منهم، وكان لهذا المناخ المتوتر فى السودان أثره فى زيادة الوعى السياسى عند جمال عبدالناصر، كما وسع من دائرة اهتماماته بما يحدث فى السودان أو أى بقعة أخرى من محيط مصر العربى والإسلامى، وكان الحس الوطنى والقومى فى السودان - وربما لا يزال - مصبوغاً بالعاطفة الدينية، فمنذ ثورة المهدى وحركة الميرغنى والسودانيون يشتغلون بالسياسة فى إطار دينى. ولا شك فى أن الفترة التى أمضاها عبدالناصر فى السودان زادت من يقينه بأنه لا خلاص لوادى النيل من الاحتلال والتخلف إلا من خلال الدين، فكان طبيعياً أن يزيد ذلك من ارتباطه بحركة الإخوان المسلمين.
تحول دراماتيكى
وقد ظلت حركة الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا وعبدالرحمن السندى فى القطاع المدنى وجمال عبدالناصر فى القطاع العسكرى، تعمل لتغيير الأوضاع فى مصر والاستيلاء على السلطة، كما كان مقدراً لها فى عام 1955، فقد قدرت قيادة الإخوان أنه فى هذا العام يكون قد توافر لها من الإمكانات المادية والبشرية والحركية ما يمكنها من الاستيلاء على السلطة فى مصر.
ولكن ما الذى حدث حتى تغيرت الأحوال والأوضاع، وبالتالى تغيرت الأوراق والترتيبات؟.. إنها قضية فلسطين التى تفجرت على نحو دراماتيكى لم يكن فى حسبان أحد من قادة الإخوان وهم يخططون للأحداث فى مصر، فقد جاء عام 47 الذى صدر فيه قرار تقسيم فلسطين من هيئة الأمم المتحدة بمثابة التحدى لـ«الأستاذ» حسن البنا، الذى كان يدرب كوادره فى الجوالة والجهاز الخاص ليعمل بهم على تغيير الواقع على أرض مصر كما كان مقدراً فى عام 1955، فأصبح يتعين عليه الآن الانتقال إلى أرض فلسطين لمواجهة معركة لم تكن محسوبة.
ومن هنا غيّر حسن البنا تكتيكاته مضطراً، وبدا مقتنعاً بأن بداية التغيير الحقيقى ليست فى مصر فقط، بل فى العالم العربى كله، هى الآن على أرض فلسطين التى يجب أن يخوض معركته فيها مع اليهود بالمتطوعين.
بدأ حسن البنا يجوب القرى المصرية وفى صحبته الحاج أمين الحسينى ليحث الناس على الجهاد دفاعاً عن أرض فلسطين، وقد رأيت- وكنت حينئذ عضواً بالجهاز الخاص بحركة الإخوان المسلمين رغم أنى لم أكن قد تجاوزت بعد السابعة عشرة من عمرى- كيف كان الرجال فى قرية تسمى «أبوخرس» بصعيد مصر يدخلون إلى بيوتهم ليأتوا بزوجاتهم ليتبرعن بمصاغهن للحسينى والبنا مشاركة منهن فى الجهاد على أرض فلسطين.
مَنْ الخائن؟
وقد سافرت أول مجموعة من المتطوعين من الإخوان المسلمين إلى أرض فلسطين عقب قرار التقسيم مباشرة، فى يناير عام 1948، وبدأت فى اتخاذ مواقعها حول «الكيبوتزات» اليهودية فى جبال فلسطين.. وقد شرع المتطوعون المسلمون فى القتال المتلاحم مع المستوطنين اليهود فى المستعمرات الإسرائيلية فور وصولهم إلى هناك. وبدأوا فعلاً فى تحرير بعض المواقع المهمة ومنها «تبة اليمن» التى غيروا اسمها إلى «تبة الإخوان المسلمين».
حينئذ بدأت القوى الاستعمارية فى التخطيط لدخول القوات العربية النظامية إلى ميدان المعركة بقيادة الملك عبدالله صنيع الإنجليز، وكان دخول القوات العربية فى 15 مايو 1948 مؤامرة على المتطوعين المسلمين وليس معاونة لهم.. فحين جمع فاروق مستشاريه ليبحث معهم ما يجب أن يفعله إزاء قضية فلسطين، قال له أولئك المستشارون إن التيار الشعبى المصرى تجاه قضية فلسطين أقوى من أن يقاوم، ولكن يمكن استيعابه وإجهاضه، بأن تكون أنت- يا جلالة الملك- صاحب الجيش الذى يدخل فلسطين مقاتلاً، فلا يزايد عليك الإخوان المسلمون، ولا يكسبون على حسابك ورقة يمكن أن تكسبها أنت، فقرر فاروق دخول القوات المصرية إلى فلسطين، حينئذ أدرك حسن البنا- وكان رجلاً أريباً محنكاً- أن النظام العالمى القائم فى ذلك الوقت يسعى لكسر النفسية العربية وإصابتها باليأس والإحباط بهزيمة سبعة جيوش عربية أمام بعض العصابات الصهيونية. ولهذا أصدر حسن البنا أوامره بسحب قواته من المتطوعين بفلسطين وعدم الاستمرار فى إرسال قوات أخرى إلى هناك.
وقد كان لهذا القرار الذى أصدره المرشد العام أثر الدوى فى قواعد الإخوان، حتى إن البعض منهم قد اتهمه بالخيانة، ويقول العقالى: كنا نتدرب فى بعض المعسكرات بأسيوط استعداداً للسفر إلى أرض المعركة فى فلسطين حين جاءنا القرار بوقف التدريب وإخلاء المعسكرات من المتطوعين.
وبعد أن استوعب حسن البنا كل المهاجمين وحركة التمرد فى صفوف الإخوان، عقد كتيبة ليلية لأعضاء الجهاز الخاص ليقول لهم: العمل هنا فى مصر وليس فى فلسطين، وإن الطريق إلى القدس لابد أن يمر عبر القاهرة، وما يحدث الآن فى فلسطين إنما هو مؤامرة لتسليمها إلى اليهود بأسلوب يحبط الإرادة العربية والإسلامية لعدة أجيال قادمة. وقال كلمته الشهيرة: كنا نعمل على تنظيف سلم الحياة فى مصر- بالتربية- من أسفل إلى أعلى، فأبى النظام إلا أن يقنعنا بأن السلم لا ينظف إلا من أعلى إلى أسفل..!
الزعيم عبدالناصر
وقد تنبه المعسكر الغربى إلى خطورة الإخوان على مخططاتهم فى المنطقة العربية، فقرروا الإسراع بالتصدى للحركة وإجهاضها قبل أن يستفحل أمرها، فتصبح عصية على التصفية والضرب.. وقد اجتمع سفراء إنجلترا وفرنسا وتركيا، وكانت عضواً ضالعاً فى التحالف الغربى ومشاركاً فى حرب كوريا، وقرروا العمل على حل جماعة الإخوان المسلمين.. فصدر قرار بحل الحركة فى 8/12/1948، واعتقل جميع قيادة الإخوان ما عدا حسن البنا المرشد العام للحركة ورأسها المدبر، وحينئذ أيقن الرجل أنه استبقى ليصفى، لأنه لا معنى لأن يعتقل جميع قيادات الإخوان وهم دونه إلا أن يكون ذلك لأمر يدبر له خاصة.. فأعد وصيته وذهب بها ليسلمها إلى صالح حرب باشا فى جمعية الشبان المسلمين فى الليلة التى قتل فيها، وهى الليلة الوحيدة التى خرج فيها من بيته منذ أن أحس بأنه مستهدف من قبل الملك وأعوانه.
المرشد العام
وقد كتب البنا موصياً بأن يكون المسؤول عن جماعة الإخوان المسلمين فى حالة اغتياله أو غيابه هو عبدالرحمن السندى رئيس الجهاز الخاص أو «التنظيم السرى» للإخوان المسلمين، وإذا لم يكن السندى موجوداً يصبح جمال عبدالناصر حسين هو المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين.
وبعد اغتيال حسن البنا بأيام معدودة ضبط عبدالرحمن السندى فى القضية المشهورة باسم «سيارة الجيب»، التى كانت تحمل الوثائق الخاصة بالأسماء الحركية لجميع أعضاء الجهاز الخاص أو التنظيم السرى لحركة الإخوان المسلمين، وقد ضبطت السيارة الجيب التى كان يستقلها بعض أفراد التنظيم بالصدفة البحتة أمام قسم الوايلى بالعباسية، وعلى إثر ذلك ألقى القبض على عبدالرحمن السندى قائد التنظيم السرى وأودع السجن على ذمة القضية، فلم يبق لقيادة الحركة غير جمال عبدالناصر.
من الورشة إلى المعرض
لم يكن عبدالرحمن السندى حتى ذلك الوقت من الوجوه المعروفة، فقد أبقاه حسن البنا تحت الأرض، منذ أن أسند إليه قيادة التنظيم السرى عام 1938، وقال السندى بعد قيام الثورة إن حسن البنا قال له حين اختاره لهذه المهمة السرية الخطيرة: إن الجهاز الخاص هو «الورشة» التى نعد فيها قادة التغيير، أما مكتب الإرشاد والمركز العام والهيئة التأسيسية وحديث الثلاثاء فكلها بمثابة «المعرض»، الذى نعرض فيه بضاعتنا، والصانع الجيد لا يجعل مرتادى المعرض أو زواره يرون ما يحدث فى «الورشة»، فالورشة تصنع فى صمت، والمعرض يبيع بغير ضوضاء الورشة.
قد تكون هذه النظرة صائبة على المدى القريب، ولكن على المدى البعيد كان هذا الفصام بين الجهاز السرى والقيادة هو سبب مقتل حركة الإخوان المسلمين، فى غياب حسن البنا، كما سيأتى ذكره فيما بعد.
بعد دخول عبدالرحمن السندى السجن انصرفت الأنظار إلى جمال عبدالناصر حسين ليقود الإخوان المسلمين، كما جاء فى وصية المرشد العام، وهو يستعد للرحيل قتلاً.. وكان عبدالناصر فى ذلك الوقت لايزال محاصراً فى «الفالوجا» فانتظره صالح حرب ليبلغه بوصية المرشد العام قبل اغتياله، وقد حضر جمال عبدالناصر ومعه الصاغ محمود لبيب الذى كان قد أقنع عبدالناصر بالدخول فى حركة الإخوان المسلمين عام 1942.
عجلوا بالحركة
وقد جاء فى وصية البنا فضلاً عن اختيار السندى ثم عبدالناصر لقيادة حركة الإخوان بعد وفاته مناشدة قيادة الإخوان الجديدة أن تسارع بالتغيير وقلب نظام الحكم فى موعد أقرب من عام 1955، الذى كان قد تم الاتفاق عليه موعداً للثورة، فقد أصبحنا «فى سباق مع الزمن».
ولعله من الثابت الآن أن إبراهيم عبدالهادى، رئيس وزراء مصر بعد محمود النقراشى الذى اغتاله الإخوان المسلمون فى أعقاب قراره بحل جماعتهم، كان قد استدعى جمال عبدالناصر ليسأله عن علاقته بالإخوان المسلمين، وقد أنكر جمال عبدالناصر -بطبيعة الحال- أى صلة له بالجماعة المنحلة، بينما كان يحتفظ فى جيب سترته العسكرية بوصية حسن البنا وورقة أخرى تتضمن بعض أسماء المدنيين الذين رشحهم له حسن البنا للاتصال بهم عند قيام الثورة، ومن بين تلك الأسماء جاء اسم عبدالعزيز على، الذى كان رغم انتمائه الظاهر للحزب الوطنى القديم فإنه كان على علاقة حميمة جداً بالأستاذ حسن البنا، وقد اتهم عبدالعزيز على مع الإخوان المسلمين مرتين، نظراً لتلك الصلة الوثيقة التى كانت تربطه بهم، وقد اختاره جمال عبدالناصر وزيراً فى أول وزارة يشكلها بعد قيام الثورة.
نظرة ثاقبة
كان عبدالناصر أثناء مشاركته فى حرب فلسطين قد اكتشف عدداً من الحركات السرية التى يموج بها الجيش المصرى.. ولم تكن أى منها تعلم بحقيقة الحركات الأخرى أو اتجاهاتها أو أعضائها، ولكن جمال عبدالناصر الذى كان قائداً متميزاً، علم بوجود تنظيم شيوعى فى الجيش يقوده يوسف صديق، وتنظيم وطنى آخر يقوده الضابط أحمد شوقى، بالإضافة إلى عدد آخر من التنظيمات السرية التى كان يعج بها الجيش فى تلك المرحلة، التى سادها القلق والترقب قبل قيام الثورة.
وبعد عودته إلى مصر من حرب فلسطين، وعلمه بما جاء فى وصية حسن البنا من أنه يرشحه لتولى المسؤولية فى حركة الإخوان المسلمين بعد غيابه هو وعبدالرحمن السندى، كان عليه أن يجتمع بالضابطين الآخرين اللذين حضرا معه البيعة لحسن البنا، ليشاورهما فى الأمر، وهما عبدالمنعم عبدالرؤوف وأبوالمكارم عبدالحى، وأطلعهما على ما جاء فى الوصية، خاصة ما جاء فيها متعلقاً بضرورة الإسراع للقيام بحركة التغيير، وقال لهما جمال عبدالناصر يومها إنه لا سبيل أمامهم للإسراع بحركة التغيير إلا بالتلاحم مع الحركات السرية الأخرى داخل صفوف الجيش، فالمهمة أثقل من أن يتحملها تنظيم واحد وهى أكبر من قدرة أى تنظيم على حدة، بينما لو استطاعوا التوحد والاندماج فى التنظيمات الأخرى أمكنهم
القيام بالمهمة بنجاح وعلى وجه السرعة، على أن يكون زمام الأمور بأيدينا.
وقد وافق أبوالمكارم عبدالحى على ما قاله عبدالناصر، أما عبدالمنعم عبدالرؤوف فقد رفض ذلك قائلاً إنه لا يمكن أن يضع يده إلا فى أيد «متوضئة»، وأنه أقسم يمين الولاء للعمل على المصحف، وأنه لا يمكن الوصول إلى الغاية النبيلة إلا بالوسيلة النبيلة.. وبالتالى فإنه لن يضع يده فى أيد الشيوعيين أو غيرهم ممن لا ينتمون إلى الإخوان المسلمين.
حاول عبدالناصر جاهداً إقناع عبدالمنعم عبدالرؤوف بوجهة نظره ولكنه حين فشل فى ذلك قال له: «إذا اعتزلتنا فلا تكن ضدنا.. وإذا عملنا عملاً واحتجناك فيه فساعدنا. فوعده بذلك، وافترقوا على هذا الوعد والاتفاق.
وعلى إثر ذلك شرع عبدالناصر فى بناء تنظيم الضباط الأحرار، الذى كان يضم فى الواقع أكثر من تنظيم سرى، وأكثر من اتجاه سياسى وعقائدى، وكان ذلك فى عام 1949، وهو التاريخ الصحيح لبداية تنظيم الضباط الأحرار.
أما قبل هذا التاريخ فلم يكن هناك تنظيم اسمه الضباط الأحرار، بل كان عدد من التنظيمات السرية الصغيرة التى يجهل كل منها حقيقة الآخرين، وقد اندمجت جميعها فى تنظيم واحد، هو الذى عرف تاريخياً باسم تنظيم «الضباط الأحرار» وهو- كما نرى- اسم محايد يتسع لمختلف الاتجاهات والميول السياسية والعقائدية، ففيه الإخوانى وفيه الماركسى، وفيه الآخرون من غير المنتمين لأى من الاتجاهات السياسية المطروحة فى ذلك الوقت، وإن كان شغلهم الأول هو قضية الوطن.
الحلقة الثانية الأربعاء المقبل