بقايا العالم الذي نعرفه ... ذكريات عن أرض الأحلام، الأرض الخضراء حيث تعيش الأمهات في دعة وسلام يرضعن أطفالهن الأصحاء الذين يجرون هناك وهناك ويصنعون البهجة حينما وجدوا وجداول الماء العذب تلون الأرض بالأخضر الذي يمتد للأفق.
هذه الصور الساكنة في الوجدان لم يعد لها وجود في زمن ما بعد الحروب حول الوقود ثم المياه التي تلوت وحمضت.. تسمم الناس ومات النبات، غاب اللون الأخضر من العالم وابتلعه الأصفر الممتد من الشروق للغروب، حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وعادوا همجًا كما كانوا في بدايتهم الأولى.
العالم الذي تدور فيه أحداث فيلم «ماكس المجنون .. طريق الغضب» عالم الموتى الأحياء، حيث يعيش «جو» الخالد محاطًا بجنوده الأوفياء في القلعة أعلى الجبل، حيث يتحكم في الماء والخضرة، ويترك سفح الجبل للرعاع الذين لا يملكون أبسط متطلبات الحياة.
«جو» نموذج متكرر للحكام والملوك المستبدين الذين يحتفظون بكل الخير لأنفسهم ويستعبدون أتباعهم بأكذوبة الخلود التي يصنعونها ويبدعون في خيالاتهم مع الزمن، وفى الفيلم، فمشروب الخلود هو مستخلص لبن الأمهات اللواتى يتم تسمينهن بغرض حلبهن من أجل «جو»، كما يحتفظ بالفتيات الشابات الجميلات كزوجات له ليضمن أن يلدن أطفالا أصحاء، فزوجته العجوز السابقة لم تنجب له إلا ذكورًا بتشوهات خلقية، وهو يعيش بأدرع واقية وجهاز تنفس صناعى يبقيه على قيد الحياة.
وكالعادة يتحكم «جو» في الثروة، وهنا المياه، وهى مياه جوفية تنبع في فالهالا ويرفعها، حيث يعيش في أعلى الجبل ويفتح لرعيته الخزان كل فترة ويطالبهم بألا يدمنوا شرب الماء حتى لا يفسدوا!! إنها وصايا الديكتاتور الدائمة والمعتادة.
يحيط نفسه بجنود وحراس، مستعدون للموت من أجله، وقد أقنعهم بأن من يستشهد سيصبح خالدًا مثله ويشاركه الحياة الأبدية.
تبدو الأمور بلا أمل في هذه البقعة التعيسة وما حولها، ولكن يحدث مالم يخطر على بال الزعيم، أن تجتمع بذرة الأمل مع الرغبة في الخلاص، فزوجاته الشابات لديهن أمل في الهرب منه ومساعدته، القائدة الحربية «فيريوزا» تريد الخلاص من الرجل الذي اختطفها من عائلتها وهى دون العاشرة، حيث كانت تعيش في الأرض الخضراء شرقا، وأيضا رغبة النجاة ومجرد البقاء على قيد الحياة من ماكس المصاب بهلاوس سمعية وبصرية نتيجة ما تعرض له في حياته السابقة، حيث كان رجل شرطة، ولكنه لم يستطع أن ينقذ الناس ولا أسرته من جحافل الشر التي سادت عالمه البائد.
«ماكس المجنون.. طريق الغضب» هو الجزء الرابع من سلسلة أفلام ماكس المجنون التي بدأها المخرج الأسترالى جورج ميلر عام 1979 مع ميل جيبسون، نجح المخرج في أن يبقى المشاهد مشدودا للفيلم الذي ينقلك إلى عالم خليط من الخيال والجنون، المركبات المستخدمة في الحرب بين فيريوزا وجنود «جو» هي بقايا سيارات العالم القديم تم تجميعها لتصبح أكثر قوة ووحشية، جنود «جو» بقايا آدميين، فهم كالموتى ببشرتهم الكالحة وأجسادهم العارية، وهم لا يعرفون إلا الطاعة العمياء لسيدهم، لا يفكرون ولا يجادلون «جو» فهو بالنسبة لهم بديل الإله، مقدس لا يخطأ أبدا، الموسيقى التصويرية لمارك مانجينى وديفيد وايت ترافق الفيلم ولا يمكن أن تتخيله دونها، فهى مذهلة في التعبير عن الصورة ولا تقل جنونا عنها.
الفيلم مرشح لـ10 جوائز أوسكار أهمها: أحسن فيلم، أحسن مخرج، أحسن تصوير، أحسن موسيقى وتصميم أزياء وماكياج.
الفيلم يتحدث عن الوطن، وهى تيمة متكررة في معظم الأفلام المرشحة للأوسكار هذا العالم: بروكلين، العائد، جسر الجواسيس، الماريخى والحجرة، كل فيلم من تلك الأفلام يتحدث عن الوطن بطريقة مختلفة، في فيلم «ماكس المجنون.. طريق الغضب» الوطن هو المكان الذي يمكن أن ينمو فيه أملك، وتتحقق فيه أحلامك وتعود إليه ولو بعد حين.
فالأرض الخضراء التي خرجت فيريوزا عن للبحث عنها تحولت لأرض الغربان، ولم تعد أرض الأحلام المؤجلة، وأصبح ماكس المجنون هو العاقل حين نصحها بالعودة إلى قلعة الجبل حيث الماء والنبات، وقال لها: «الأمل شىء زائف إذا لم تتمكنين من إصلاح ما هو مكسور سوف تصابين بالجنون»، واصطحبها في رحلة الخلاص، ومواجهة «جو» وتخليص عشيرتها منه ومحاولة استعادة ما تبقى من حياة.