لا تُخفى جماعة الإخوان المسلمين سعيها لتغيير المجتمع، وتضغط مع باقى القوى السياسية من أجل حراك سياسى واجتماعى يسمح بممارسة اللعبة السياسية ديمقراطيا وتداول السلطة سلميا، ورغم ذلك يأخذ البعض على الجماعة نفسها عدم تطبيق قواعد العمل الديمقراطى داخليا، ولا تقبل النقد حتى إذا أتى هذا النقد من قلب كوادرها، وبكل النوايا الحسنة فى تطوير الجماعة ودفعها للأمام،
وربما يكون أبرز الأمثلة على هذا الوضع فى الوقت الحالى حالة الباحث «هيثم أبوخليل»، وهو كادر إخوانى حتى النخاع، لكنه صاحب رؤية وموقف من ضرورة تحديث الجماعة، وإتاحة حق النقد الذاتى لكل المستويات التنظيمية، ونتيجة تلك المواقف أوقفته الجماعة بقرار إدارى، وتعرض أبوخليل لحملة هجوم ضارية عبر شبكة الإنترنت وصلت إلى حد تخوينه أو نفى كونه من الإخوان أصلا.
الباحث والناشط الحقوقى «أبوخليل» اختص «المصرى اليوم» بالكشف للمرة الأولى عن وثيقة شديدة الأهمية تلخص وضع الجماعة خلال ربع القرن الأخير، وهى وثيقة مراجعات داخلية كتبها عدد من الإصلاحيين من أعضاء الجماعة منذ ٢٥ عاما بهدف إصلاح بعض الأحوال الداخلية، وقدموها عبر القنوات الشرعية كما تقتضى النظم الداخلية،. «المصرى اليوم» تنشر هذه الدراسة المهمة، التى تلقى ضوءا كاشفا على آليات العمل داخل الجماعة، والأفكار التى يتم تلقينها للكوادر، وطرق تصعيد القيادات، ومبدأ السمع والطاعة، وتفتح الجريدة النقاش حول هذه الأوراق التي ولدت من رحم الجماعة نفسها:
كتب هيثم أبوخليل ما يلى: فى صيف عام ١٩٨٦ قدمت مجموعة رائعة من قيادات وكوادر جماعة الإخوان المسلمين، الذين دُرج على تسميتهم الإصلاحيين، مجموعة من الأوراق لتطوير الجماعة، وذلك عبر القنوات الشرعية التى يتحجج القائمون على الجماعة دائما بعدم النظر فى أى ورقة تطوير إلا عن طريقها، والمدهش أن قيادة الجماعة لم تحاول النظر باهتمام إلى هذه المراجعات الفكرية المفصلية، ومراجعات أخرى استراتيجية، بل مازال العمل يدار بطريقة تقليدية، والفعل يحدث دائما عن طريق رد الفعل كمنهج متبع دون أى تصورات أخرى لتطوير الجماعة وعملها.
واليوم، وبعد ربع قرن من تقديم هذه الأوراق للقيادات، أعتقد أن القارئ العادى غير المتخصص فى شأن الإخوان سيجد حيرة وربما لا يصدق أن هذه الأوراق قُدمت منذ ذلك الزمن وليس منذ أيام قليلة.
الأكثر من ذلك، أن مسلسل ملاحقة من ينادون بالتغيير والتطوير بهمة عالية مازال مستمرا، وربما كان يمكن للجماعة مع قليل من هذا التطوير أن تحقق شيئا ملموسا بعد هذا التاريخ الطويل، لكنها آفة الكثير من التنظيمات السرية التى تجد أن انكفاءها على حلقتها الداخلية من الأفراد هو سر قوتها، فى حين أن الزمن والتاريخ لا يرحم ولن يرحم جماعة هى جماعة الفرص الضائعة بامتياز، الأمر الذى أجبر معظم هؤلاء الإصلاحيين على الانسحاب، ولم يتبق منهم إلا عدد قليل للغاية يقاوم الرحيل ظناً منه أن الوجود داخل جماعة لا تقبل التطوير أو ربما تقبله بعد ردح من الزمن أفضل من الوجود فى الشارع.
بداية أريد أن أؤكد أننى تجرأت على طرح هذه الأوراق إعلامياً لأننى أيقنت بوهم القنوات الشرعية، التى تُستدعى مثل الإسبرين لتسكين صداع التطوير والتغيير، فيكون مصير ما يُنقل عبرها سلة المهملات مثل الورقات التى بين أيديكم، ولأنى أيقنت بأن الشفافية هى الحل لتوعية الصف الإخوانى خاصة، والجمهور عامة، للضغط من أجل التغيير داخل وخارج الجماعة التى نعول عليها كثيراً فى التغيير والإصلاح فى بلادنا، بل وإحراج أصحاب الممارسات الخاطئة الذين يتخيلون أنهم أوصياء عليها، ولكنهم للأسف لا يعلمون أنهم مثل الدبة التى قتلت صاحبها، وأن الزمن تغير، وأن ما كان يصلح أمس لا يصلح اليوم، وما يصلح اليوم لا ينفع غداً.
وأريد أن تجهد القيادة الحالية للجماعة نفسها بالنظر فى هذه الورقات القديمة وتحاول الاستفادة منها بدلا من الحل السهل بالمزايدة على ناقلها وتلقين الصف بأنه أصبح مارقاً بين ليلة وضحاها بعد أكثر من ٢٠ عاما قضاها داخل جماعة الإخوان، وأطمئنهم بأننى لن أكون مثل أصحاب هذه الأوراق ولن أجعل اليأس والتضييق والهجوم ينال من عزيمتى فأنسحب نافذاً بجلدى.. فجماعة الإخوان لا تمثل بالنسبة لى ترفاً أو شيئاً كمالياً يمكن الاستغناء عنه ولكنها أمل لتحقيق مشروع حضارى كبير للأمة بأسرها.. فأنا إخوان وسأظل إخواناً.
حملت أوراق التطوير عنوان «أزمة التنظيم تربوياً وإدارياً»، وهى الأوراق التى تشى بتأثر كاتبيها بكتابات الدكتور «خالص جلبى» وكتابه المهم «ضرورة النقد الذاتى للحركة الإسلامية»، الذى صدر قبل هذه المراجعات بسنوات قليلة، وكذلك بكتابات الدكتور «عبدالله النفيسى» ومنها كتابه «الحركة الإسلامية.. رؤية مستقبلية».
بدأ مؤلفو هذه المراجعات بتمهيد للحديث عن أزمة التنظيم عموماً: «إننا نجد أنفسنا أمام ميراث ضخم من الثبات والديمومة والجمود على مستوى الفكر والطرح والهياكل التنظيمية، ويمتد الأمر بالبعض فيجعلون هذا الميراث جزءاً لا يتجزأ من التراث الإسلامى نفسه، وبالتالى فهو مقدس وغير قابل للنقد والدراسة، لقد وصل إلينا التنظيم صفوياً قائماً على انتقاء نوعية معينة من الناس لتمر عبر حلقات من التربية والتشكيل بمعزل عن حركة المجتمع وتأثيراته إلى حد كبير، وهذا جعل التنظيم هلامياً غير محدد الملامح وليس له دور فى مستوى ومجال العمل المطلوب،
ولذلك افتقد للدور وتحول إلى وعاء نحاول بداخله تعبئة الجماهير بدلاً من أن يكون الأداة التى تنظم الجماهير وتقودها إلى إحداث التغيير المطلوب والممكن، وبذلك لم يصبح التنظيم مجرد وسيلة من وسائل متعددة بل تضخم دوره وهيكله ومجالات عمله، وأصبح هناك فكر التنظيم وثقافة التنظيم.. إلخ، وأصبح من المتصور أنه يمكن تحويل المجتمع إلى مساحة تنظيمية وبالتالى يسهل قيادتها وتوجيهها، وكأن قيادة أمة ومجتمع مثل قيادة تنظيم، وهذا تصور غير مقبول وتبسيط مخل للمسألة، وتحول التنظيم من وسيلة لحفظ الذات من الذوبان وأداة لتغيير المجتمع إلى مجتمع مصغر يحاول جاهداً ابتلاع المجتمع الكبير الذى نشأ فيه، وتعامل التنظيم بنفس المنطق مع الآخر غير الإسلامى إذ رأى فيه صيداً يسهل ويحسن افتراسه ولم يفسح له مجالاً للعمل»، وتأتى هذه المقدمة وكأن كاتب الأوراق ينظر لحال الجماعة اليوم.
وتتناول هذه الأوراق معضلة أزلية لم تحاول أو تسعى قيادة الإخوان لحلها خلال العقود الأخيرة، وهى حسم موضوع السرية أو العلنية والبحث عن شرعية للجماعة، فتقول: «نقطة أخرى يجدر تأملها وهى الازدواجية بين السرية والعلنية، فالتنظيم كان بصورة عامة معلناً حتى سنة ١٩٤٠ وبعد تشكيل النظام الخاص لظروف تاريخية معروفة غلب الطابع السرى على الحركة خاصة الخمسينيات والستينيات، ومنذ خروج الإخوان من السجون والتنظيم يعانى من ازدواجية بين سرية بلا معنى وعلنية المخبر السرى، وفوّتت هذه الوضعية مميزات السرية والعلنية معاً بل إن سلبيات السرية هدمت أحياناً مكاسب العلنية، وستبقى المشكلة كامنة فى صفحات المستقبل متمثلة فى تغلب إحدى الشخصيتين، فهل تتغلب الشخصية السرية الطارئة على الشخصية العلنية الأصيلة؟
ولعلنا نذكر للأمانة أن هذه الازدواجية ليست عيباً اختصت به الحركة الإسلامية دون غيرها، بل هى صفة ملازمة لأفكار وحركة المجتمع فى العالم الثالث ألا وهى الميل للتلفيق والحذر من الحسم والاختيار والتمييز على مستوى الأفكار ونظام الحكم والاقتصاد والقيم الاجتماعية، ونظن أن شيئاً ما حدث فى تاريخنا أورثنا هذا الخلل، وخطورة السرية أيضاً أنها تكون مبرراً للاستبداد بالرأى والانفراد باتخاذ القرار تحت دعوى أن القيادة تعرف أكثر فيتحول التنظيم إلى جهاز تواكلى راكد يورث الاستبداد والخمول والركود وعدم الفاعلية لوجود آراء مختلفة وحلول متعددة وعدم وجود قنوات لتوصيل هذه الآراء والحلول إن وجدت فيشعر الفرد الإخوانى بهامشيته فينسحب، وهكذا أصبحت السرية ملجأ مفتوحاً تلجأ إليه القيادة لتمارس حقها المقدس فى الوصاية على القاعدة».
تنقلنا الأوراق إلى نقطة خطيرة وهى أهمية النقد الذاتى للجماعة، الذى يتهم من يقوم به هذه الأيام بأنه مفتون، ضعيف الإيمان، ناقض للبيعة، وفى هذه النقطة تحديداً تحذر الأوراق: «ذلك هو التداخل المغلوط بين الدين والتنظيم كجهد بشرى قائم على أساس تعاقدى وعلى شروط ينتقض العقد بانتقاضها، وبين الدين باعتباره الإطار المرجعى الذى ترد إليه الأمور ولا سبيل للاعتراض أو الاجتهاد مع نصوصه القاطعة، وهذا التداخل ناتج عن أخطاء فى المفاهيم المتعلقة بالإسلام والأزمة وطبيعتها والتنظيم نفسه ودوره، ويؤدى هذا التداخل إلى إعاقة التنظيم وحركته بمصادرته للاجتهاد والتفكير المستقل وتبادل البذل،
وانظر (سعيد حوى) فى كتابه (من أجل خطوة إلى الأمام) حيث يقول: (لقد رأيت أناساً يزعمون أن التنظيم إذا قال لا يحتاج لدليل شرعى وهذا نوع من إعطاء العصمة لمن لا يملكها وطريق للاستبداد وتعطيل النصوص.. لقد رأيت أناساً يجعلون الفريضة محرمة باسم التنظيم، نحن لا نعطى للجماعة فى العمل الإسلامى عصمة، ولا نعطى لقيادة أى فرد عصمة، ويخطئ من يقول إذا قالت الجماعة شيئاً أو قال التنظيم شيئاً فإننا لا نبحث عن دليل فهذا نوع من البابوية والإمامية، ولقد رأينا نتيجة لذلك أن بعض المنتسبين لتنظيمات تظن فيهم روح قتلة الحسين منهم من يرتكبون أبشع أنواع الظلم باسم الإسلام وهم مرتاحو الضمير، ورأينا بعض القيادات تخدع أتباعها فتصدر حكماً خاطئاً، ورأينا بعض القياديين تغلبهم الأهواء، ورأينا قيادات تكذب، ورأينا قيادات تستعمل خداع الشعارات فمثلاً البيعة فى الاصطلاح الفقهى غير البيعة فى اصطلاح العمل الإسلامى، ولقد رأينا من يحاول أن يخدع السذج فيعطى البيعة التى تُعطى لبعض أمراء الجماعة الإسلامية مضمون البيعة التى وردت فى الأحاديث النبوية، ورأينا قيادات تعامل المختلفين معها على أنهم خوارج).
انتهى كلام حوى، وكما قال أحد قيادات الإخوان، رحمه الله، تحت عنوان: (لا عصمة للتنظيم ولا لمؤسساته ولا لأى قيادة غير قيادة الرسل عليهم السلام)، والملاحظ أن هناك حرصاً عجيباً ورعاية مثيرة لإرساء هذا المفهوم وترسيخه وتوريثه عند القاعدة سواء بالخلط فى الممارسة أو الخلط فى الخطاب، أرجع مثلاً إلى كتاب الأستاذ (مصطفى مشهور) بين القيادة والجندية يقول: (على القيادة أن تحرص على توريث الدعوة إلى الأجيال التالية بكل أصالتها وشمولها وخبراتها لضمان مواصلة السير على طريق الدعوة دون انحراف أو تفريط)، قارن بين هذه النظرة ومفهوم الوفاء فيها بنظرة الأستاذ راشد الغنوشى لعملية الوفاء والأصالة حيث يقول: (إن الوفاء للرواد لا يكون بالجثوم على قبورهم وآثارهم ونكررها ونسبح بحمدها، وإنما نطور تلك الجهود ونقوم بنصيبنا فى خدمة الإسلام فإن الزمن فى حركة مستمرة ومتواصلة، وما سبيل لخلود الإسلام إلا بهذا التجديد المستمر)، كما يزيد الأستاذ مصطفى مشهور عندما يقول فى كتابه «بين القيادة والجندية» ص٦٧: (ويعلم الفرد أن تعهده وبيعته لقيادة الجماعة إنما هى فى الحقيقة تعهد وبيعة لله يلزمه الوفاء بها وعدم النكث فيها، «إن الذين يبايعونك.. »
ويقول فى صفحة ٧٨: (لا تعتبر جماعة تحقق أهدافاً وتنجز أعمالاً إلا إذا كان أفرادها يسمعون ويطيعون لقيادتهم تعبداً وطاعة لله، فإن طاعة الأمير من طاعة الله، والامتناع عن تنفيذ الأوامر أو مجرد التردد فى تنفيذها يعرض العمل للخطر ويعتبر نكثاً للبيعة)، ويذهب الأستاذ مصطفى مشهور لأبعد من ذلك فى تكريس هذا التداخل بتحذيره من إلصاق المحن والابتلاءات بالقيادة، فيقول (ولا يظن أحد أن هذه المحن ضربات قاضية ولكنها صقل وتمحيص للمؤمنين ولا يتطرق لأحد يأس بسبب شدة المحن أو طول إحداها كما لا يتصور أنها نتيجة لأخطاء أو تقصير من القيادة كما يحاول المشككون تصويرها».
مما سبق يتضح لنا أن هناك ركاماً مفاهيمياً وتراثاً كاملاً يعتمد هذا الخلط بين الدين والتنظيم وليس هناك لتعمد هذا الخلط وعدم مراجعته إلا أن هذا الخلط يساعد القيادة على إحكام قبضتها على القاعدة ويدفع القاعدة إلى الاستسلام للقيادة بشكل كامل، خاصة أن القيادة فى مثل هذه التنظيمات لا تملك أى سلطات تنفيذية فكان الربط هو اللجام الموضوع فى فم الفرس ليسهل قيادته. وأنا فى الحقيقة لا أفهم كيف ترك منظرو الجماعة وشيوخها آفة الخلط بين الدين والتنظيم طوال هذه السنين دون توضيح وتأصيل إلى أن تحول إلى مرض، وأصبح الخروج عن الجماعة خروجاً عن الدين، ونقد القيادة نقداً للدين؟
وعن الاستدعاء المخل لأمراض القلوب تنقلنا هذه الأوراق إلى إشكالية استخدام الدين فى خدمة تطويع التنظيم: «وتكتمل الحلقة الثلاثية بالتركيز فى التربية والخطاب على أهمية مجاهدة أمراض النفس والقلب من حب الزعامة والجدال والرياء إلى آخره، وبدلاً من أن يقتصر الأمر على التذكير وترك مجال المجاهدة بين الفرد وبين الله عز وجل، بدلاً من ذلك، اقتحم التنظيم هذه العلاقة النشطة والحية فى صدور القاعدة واستحضر هذه الأمور من عالم الغيب إلى عالم الشهادة قسراً، ويظهر هذا الاستحضار بشكل مكثف عندما تتعرض القيادة للنقد أو النصيحة فتقوم القيادة بمواجهة هذه القضايا العقلية والمنطقية المحسوسة التى يسهل الحكم عليها عن طريق الرد بالنصح بإحسان العلاقة بالله ومراعاة الإخلاص ومواجهة أمراض القلوب مما يخنق القضية فى مهدها، فهذه الأمور من أمور الغيب التى يستحيل أن تدخل طرفاً فى قضية تمس أموراً ظاهرة وواضحة يمكن الحكم عليها مثل تقصير القيادة أو أخطاء المسؤول،
ونتيجة لهذه الهجمة المرتدة غير المرئية يلجأ الفرد إلى نفسه وينشغل بمعالجتها وتقويمها والارتقاء بها وهو مجال لا ينقضى وباب مفتوح، فينسى النقد الذى وجهه والقضية التى طرحها وينشغل عنها، هى إذن عملية ضرب تحت الحزام، واستغلال لنقطة ضعف لا تسلم منها نفس بشرية للتخلص من مراقبة القاعدة وحقها فى النقد، وبهذا اكتملت عناصر المثلث التى تحاصر الفرد وتحكمه داخل التنظيم (الدين.. التنظيم.. القلب) ولا سبيل لكسر هذا المثلث إلا عبر تحديد كل ضلع من أضلاعه وهو ما يحتاج لجهد واجتهاد»، ومازلت أذكركم أن هذه الأوراق كُتبت وقُدمت عبر القنوات الرسمية عام ١٩٨٦.
عبر أوراق المراجعات، يشخص المؤلفون فى الجزء التالى مشكلة الجانب التربوى فى الجماعة خلال هذه الحقبة تشخيصا بدا فيه توصيف للواقع الموجود وتجلياته والنتائج التى ترتبت عليه، ويقدمون بكل شجاعة وجسارة رؤيتهم فى أمور يعتقد البعض بالخطأ أنها من الثوابت التى لا تتغير، فيذكرون: «من المعروف أن نوعية التربية هى إحدى أطروحات الحركة الإسلامية التى تتحدى بها الواقع وتراهن بها على المستقبل، وللتربية فى الحركة وسائل متعددة يقوم التنظيم نفسه بدور محورى فى صياغتها، بل إن التربية تتم من خلال منظومة التنظيم نفسه، وهذه الصياغة قائمة أساساً على الحشد النفسى العاطفى أكثر من الإقناع والتشرب العقلى، ذلك أن القائمين على التربية هم خطباء بالدرجة الأولى وليسوا من المفكرين الدارسين،
ولذلك جاءت الصياغة عاطفية سرعان ما تذوب وتفقد الكثير من أركانها إذا ابتعدت عن محور التنظيم، وإن كانت قادرة على مواجهة النقد العقلى المنطقى بسبب صياغتها العاطفية الصرفة، وأهم ما تتصف بها هذه الصياغة أنها صياغة تلفيقية فهى تجمع بين مدارس شتى دون رابط محكم، فبرامج التنظيم فى أغلبها امتداد للبرامج والوسائل الصوفية مثل: زيارة المقابر.. قيام الليل الجماعى. . حلقات الأذكار الجماعية.. المعسكرات.. الأسرة.. الكتيبة.. الرحلة.. إلى آخره، وهذا النشاط الروحى بطبيعته الصوفية هو الغالب فيما يدعو إليه التنظيم من قراءات: (الإحياء.. مدارج السالكين.. وغيرها)
والمشكلة أن المدرسة الصوفية تقدم نموذجاً حياتياً متكاملاً يصعب تجزئته فهى تجعل من التهذيب والمجاهدة غاية الوجود، وتتهمش أو تكاد تنعدم الأبعاد الأخرى لدور الإنسان فى الحياة من تعمير وتعبيد ومجاهدة لطرح نموذج حضارى متكامل الصياغة لا تنفصل فيه علاقة الإنسان بربه عن علاقاته بالبشر كما هو الحال فى النموذج الصوفى، ويمتد أثر هذه الصياغة إلى العلاقة بين الفرد وقائده داخل التنظيم ونوعية العلاقة بين الفرد والتدين أو التعبد، فالأولى علاقة بين المريد والشيخ، والثانية علاقة تنظيمية مؤطرة (شبه عسكرية) لذلك تجد أن الممارسة الروحية مرتبطة ببرامج التنظيم التعبدية ومواسم العبادة وتقل كلما ابتعدت عن هذه البرامج والمواسم، كما يحدث نتيجة لهذا التداخل فرز خاطئ للأفراد وتصعيد للمسؤولين على أساس عبادى وأخلاقى دون أى مؤهلات عقلية أو قيادية.
هذا على مستوى العبادة والتنسك، أما على مستوى الخطاب التنظيمى فتجد الطيف السلفى والمدرسة السلفية فى أكثر صورها تجمداً وتشددا هو الطيف المبهر والغامر، ويتمثل هذا التشدد فى الموقف الفقهى وفى الصبغة الأخلاقية فى التعامل مع المشكلات المختلفة للحياة، ونظرة سريعة على تصنيف المواد التى تدرس نجد أنها:
قرآن كريم.. سنة.. حديث.. سيرة.. فقه ودعوة.. تزكية روحية، أين إذن بقية المحاور التى تقوم عليها الشخصية الإسلامية السوية والتى تخدم العقل وتزيده أتساعا وفقهاً من دراسات سياسية وأدبية واجتماعية، لا تجد برامج تخدم هذه المحاور اللهم إلا فى صورة مبتورة عن طريق عدة دورات فى التثقيف السياسى مثلاً وهكذا، وتغيب تماماً الدراسات والمناهج التى تعالج مشاكل الواقع مثل الموقف من الأقباط والقومية والوطنية والتراث والمرأة والتفاوت الطبقى والمشاكل الاقتصادية وتجارب التغيير والثورة فى التاريخ القديم والمعاصر، ومن هنا يمكن القول إن محتوى البرامج تجريدى يختزل القضايا ويبسطها تبسيطاً مخلاً ويصنع طوباويات روحية وصوفية يعيش بداخلها فى راحة من الإجهاد الذهنى الذى يعيشه العقل فى التعامل مع الواقع والحياة.
لذلك لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الصياغة تشجع الانعزال عن المجتمع.
إن الواقع الذى نراه كما يقول «خالص جلبى» فيه تشكيلات كبيرة من الإسلاميين الذين تخلصوا من الأمية الثقافية الإسلامية وهو أمر حسن من جانب، ولكنه فى منتهى السوء من جانب آخر إذا دخل فى روعنا أننا بأمثال هذه الكوادر يمكننا إقامة مجتمع إسلامى.. وحكم إسلامى، إذن لابد أن نلقى الضوء على ثلاث نقاط:
(١) العمل الفكرى فى الأسرة الإخوانية
(٢) جو التطور للجلسة والفرد
(٣) ساعات العمل المبذولة
لو بدأنا بساعات العمل المبذولة بعد حذف الأعذار والمعوقات نجد أنها تصل إلى ١٠٠ ساعة سنوياً أى ٤٠٠ إلى ٥٠٠ ساعة فى خمس سنوات، فهل هذا القدر يكفى لتخريج مثقف دسم وأبسط حلقة لدارس متخصص فى علم واحد تصل لأضعاف هذا الرقم، أما عن جو الجلسة فهو كما هو رغم تنوع أفراد الجلسة فى المستوى الثقافى والفكرى رغم تقدمهم المفترض من مرحلة إلى مرحلة، فالجو واحد فى كل المراحل قائم على النقل والتلقين، ولذلك يتصف التثقيف الإسلامى بخاصيتين هما الضعف وعدم النمو، وتبقى مادة الجلسة وهى ثابتة لا تتغير: آية وحديث، وحادث وسيرة، وهذا يجعلنا نقول إنه لابد من تثوير فى كمية ونوعية المادة.
إن أسلوب المدارسة داخل الأسرة الإخوانية يفتقد إلى تنمية القدرة على التلخيص والتركيز والفهم والتوصيل بل ربما تكرر المنهج عدة مرات مع شخص والنتيجة هى استحالة الوصول إلى الشخصية المطلوب تكوينها عبر هذه الخطوط المتخلفة أساساً والناقصة موضوعاً والقصيرة وقتاً.
وبمراجعة رسائل الإمام المؤسس البنا نجد أن نظام الأسرة تقلص وانكمش عما كان عليه فى أيامه وعما هو مفترض وإن كان لنا ملاحظة أخيرة على التربية التنظيمية فهى عن دور الوسائل الأخرى للتربية مثل الرحلة والمعسكر والدورة والكتيبة، ودور هذه الوسائل أنجح بكثير إذا أمكن تطويرها بحيث تصبح بعيدة عن الروتين والتقليد، ورغم ذلك تبقى الأسرة هى الوسيلة الرئيسية لتكوين وتشكيل العقلية والثقافة الإسلامية وتبقى لها أهميتها وضرورة مراجعة أسلوب إدارتها وفقراتها وإلا فإن كل الوسائل الأخرى تصب فى المجرى الذى تنحته الأسرة فى عقلية الفرد.
ولابد أن نسعى ونتلمس دوراً للعلماء والمفكرين المعاصرين فى تطوير الشخصية الإسلامية وكيفية صقلها منهجياً وتربوياً، وعودة الذاتية الداخلية للإسلام بأساليب الدعوة الفردية وخلق تيار فكرى يؤمن بأن التميز لا يكون بالانفصال عن الواقع».
أختم هذه الحلقة وكلى دهشة على بقاء الحال كما هو عليه منذ ربع قرن، قد يحدث تغيير فى الشكل يمكن أن يخدع البعض، لكن المضمون فى جانب التربية لم يتغير بدليل أن المناهج ومن يدرسها لم تغير الجماعة وتحدث فيها نقلة أو ثورة يمكن أن نتحدث عنها.