رحلة مصر مع المدنية والحداثة هي رحلة طويلة حملت جوانب مضيئة وأخرى مظلمة، وشهدت انكسارات وانتصارات، وفى داخل قيم المدنية والحداثة تنوعت المدارس وتباينت الأفكار، إلا أنها عبرت عن معانى إعمال العقل والمهنية، وربطت الصعود الاجتماعى والمادى بالعمل والجهد، وليس بالنصب والفهلوة والفساد.
المؤكد أن محمد حسنين هيكل مثّل مدرسة ولوناً داخل خبرة المجتمع المصرى في البحث عن التقدم والحداثة، وأن الخلاف معه من لون أو مدرسة أخرى أمر وارد، أما المأساة فهى تكمن في خروج البعض عن تلك المعانى التي تعرفها قيم أي مجتمع مدنى معاصر، فهناك من اختلفوا معه دون أن يقرأوا له كتاباً واحداً أو يناقشوا له فكرة، وحين نستعيد ثقافة النقاش العام وصراع الأفكار مع هيكل أو غيره فتأكد أننا نسير في الاتجاه الصحيح.
رونق هيكل
خرج هيكل من رئاسة مجلس إدارة مؤسسة الأهرام في فبراير 1974، وبقى حتى وفاته، في فبراير 2016، خارج أي موقع تنفيذى في أي صحيفة أو مؤسسة إعلامية، ومع ذلك ظل هو محور الجدل الفكرى والسياسى والإعلامى في مصر والعالم العربى.
لم يحول الدفة مثلما فعل كثيرون من رجال عبدالناصر الذين نافقوه حياً وشتموه ميتاً وتوددوا إلى سلطة السادات الجديدة.
لم يفعل هيكل مثلهم لأنه اعتبر نفسه أكبر من أي منصب يُخسره قناعاته، وحافظ على ما يؤمن به من أفكار ناصرية، رغم أنه كثيرا ما انتقد تجربة عبدالناصر، وأشار إلى مثالبها في حياة عبدالناصر نفسه.
هيكل ملأ الدنيا جدلاً ونقاشاً دون أن يكون له «منصب ميرى» أو «غير ميرى»، وذكر لى مرة أن الرئيس السادات غضب منه غضباً شديداً حين قام بمقابله الإمام الراحل الخمينى، عقب الثورة الإيرانية، (أخرج واحداً من أهم كتبه وهو «مدافع آية الله»)، وقال له بأى صفة تقابله، ومن كلفك بالذهاب إليه؟ فردّ عليه الرجل بأنه ذهب وقابله بصفته الوحيدة التي لا يستطيع أي حاكم أن يسحبها منه، وهى الكاتب الصحفى (الجورنالجى كما كان يقول).
رونق هيكل وسحره ينبع في جانب كبير منه من قدرته على أن يكون مهنياً ومؤثراً وهو خارج السلطة، وهى رسالة للكثيرين لاستعادة المهنية في العمل الصحفى والإعلامى، بعد أن غيبتها الفهلوة و«السبوبة» والحرص على التقارير الأمنية لا المهنية، وإعلام الصريخ والشتائم و«الجهالة»، بتعبير الأستاذ الأخير للإعلامية لميس الحديدى عن حال المجتمع والإعلام.
العُقد الثلاث
يقيناً هناك كتاب ومفكرون اختلفوا مع أفكار هيكل، وهناك مدارس في السياسة عارضت كتابات الأستاذ بالحجة والفكرة والرؤية المقابلة، وهى كلها تثرى النقاش حول الرجل وأفكاره، وعلامة صحة وتنوع ودليل قوة أي مجتمع وليست دليل ضعف.
وللأسف الشديد فإن كثيراً مما قيل وكُتب عن محمد حسنين هيكل حكمته إما دوافع غيرة وكراهية شخصية، أو نفاق للسلطة على طريقة المخبر الذي يجوّد من أجل أن يرضى عنه من شغله، وشنوا جميعا حملات على الرجل منذ نهاية عهد السادات ومعظم أيام مبارك دون أن يقرأوا في كثير من الأحيان كلمة مما كتب.
وقد فتح هيكل بجرأة نادرة ملف التوريث في محاضرة شهيرة بالجامعة الأمريكية في عز سطوة نظام مبارك، وتعرض بعدها لهجوم شرس من قبل مناصرى السلطة، والغريب أن نفس هذا المشهد تكرر العام الماضى، حين دعا الرئيس السيسى إلى الثورة على نظامه، وتعرض على أثرها لسيل من الشتائم من نفس النوعية والأشكال، تحدثوا في كل شىء إلا مضمون ما قاله، واعتبروه من رموز الهزيمة والعصر الناصرى الغابر، بالإضافة لاتهامات شخصية كثيرة، وتركوا الموضوع الأصلى الذي يناقش قضية لا علاقة لها بعبدالناصر والسادات ولا حتى مبارك ومرسى، إنما مصر في 2015 وأداء رئيس آخر.
يقيناً لم يكن الأستاذ هو الوحيد الذي دفع ثمن غياب النقاش العام وصراع الأفكار والرؤى في بلد مأزوم مثل مصر، فالرجل الذي كتب ما يقرب من 60 كتاباً، بعضها لم يطبع مرة أخرى وطواه النسيان، لم يفكر كثير ممن هاجموه أن يقرأوا عنواناً واحداً مما كتب حتى يقدموا معنى حقيقياً للخلاف معه.
أما العُقدة الثانية، وهى عقدة سن الرجل وقضية الأجيال، فكم واحداً لم يقرأ في حياته كتاباً لهيكل أو لغيره، منعدم الموهبة محدود الكفاءة، ومع ذلك كان يعبر عن استيائه من وجود شخص في التسعين من عمره يتكلم في أمور السياسة، وتُفتح له الفضائيات والصحف حين يريد.
والحقيقة أنه لا يوجد بلد طبيعى في الدنيا يتعامل مع موضوع الأجيال مثلما يتعامل بلد مثل مصر، فيقيناً لو كان هيكل رئيس الجمهورية أو الوزراء أو وزير الثقافة أو رئيس مجلس إدارة «الأهرام» وبقى حتى سن الثمانين (ولا نقول التسعين) لكان من حق الكثيرين أن يقولوا له أعطِ فرصاً للأجيال الشابة واترك مكانك ومنصبك، والحقيقة أن الرجل لم يمتلك على مدار أكثر من 40 عاماً، أي منذ خروجه من «الأهرام» حتى وفاته، إلا قلمه وموهبته، وهى مسألة كانت كفيلة بأن تُصمت الكثيرين لو كان لدينا حد أدنى من احترام قيمة الموهبة، ولكنّا قدرناها سواء امتلكها شخص فوق التسعين أو العشرين.
فلا أحد في الدنيا يمكن أن يحاسب هنرى كيسنجر على موهبته وعلى قدرته أن يكون حتى الآن (95 عاماً) واحداً من أكثر الشخصيات التي تصنع وتقدم أفكاراً ورؤى في العالم تُناقش ويُختلف معها، ولكن لا أحد يقول له: اصمت لأنك كبير في السن، لأن من سيستبيح هذه المقولة سيعطى لنفسه الحق أيضاً أن يقول لشاب موهوب: اصمت أنت مازلت صغيراً.
أما العُقدة الثالثة فهى عقاب هيكل على أنه اختار أن يكون منحازاً لشخص وتجربة عبدالناصر، ولم يتلون، وفى نفس الوقت اختلف مع السادات ومبارك ومرسى، وأيد مسار 3 يوليو، وأيد السيسى وأحبه على المستويين الشخصى والإنسانى، وانتقد أداءه في الفترة الأخيرة.
إذن نحن أمام رجل صنعته موهبته ورهانه على قدراته المهنية الفذة، ومتابعته الدؤوبة لما يجرى في العالم، وليس انحيازه لسلطة عبدالناصر، لأن كل من صنعتهم السلطة في العالم العربى لم يتذكرهم أحد بعد أن تركوا مواقعهم، التي أغدقت بها الحكومات عليهم، في حين أن هيكل استمر في عطائه حين كان قريباً من السلطة وحين بعد عنها.
صحيح انه مارس مواءمات مع نظام عبدالناصر، وصحيح أيضاً أنه قدم نموذج الصحفى المؤيد للنظام والمقرب من رئيس الدولة، والذى يعد جزءاً من المطبخ السياسى الذي يصنع السياسات في عهد عبدالناصر، ومع ذلك كانت لديه مساحة فريدة من الاستقلالية، ولو نسبية، سمحت له بأن ينتقد أحياناً قبل 67 وكثيراً بعدها.
والحقيقة أن هيكل راهن طوال رحلته الفريدة على الموهبة قبل الموقف السياسى، فضم لكُتاب «الأهرام» رموزاً فكرية وثقافية اختلف مع توجههم السياسى، وكثيراً ما حكى لى عن توفيق الحكيم وآرائه السياسية «العجيبة»، ومع ذلك ضمه إلى كُتاب «الأهرام»، وحافظ الرجل منذ أن أعاد تأسيس «الأهرام» حتى وفاته على نفس الخط: الموهبة والكفاءة أولاً، لذا كان يندهش (أو ينتقد) الكثيرون من دائرة علاقاته الواسعة من شخصيات محافظة ورجعية إلى أخرى تقدمية وثورية، وكان يضع الموهبة في المرتبة الأولى، وثقته في نفسه وموهبته الاستثنائية جعلتاه يقدم كثيرين للعمل الصحفى والإعلامى في مصر والعالم العربى دون أي شعور بالتهديد.