بعد ألف عام من النزاع، والصراع، والمفاوضات، والشد، والجذب، صدر فى الثانى عشر من هذا الشهر، البيان المشترك من هافانا، عاصمة كوبا، عن البابا فرنسيس، أسقف روما، بابا الكنيسة الكاثوليكية، والبطريرك كيريل، بطريرك موسكو وسائر روسيا «الأرثوذكس»، ليضع حداً للأزمات المتفاقمة بين الكنيستين داخل الديانة الواحدة، فى توقيت عصيب، تلوح فيه مؤشرات مواجهات مدمرة، أو حرب عالمية، محورها منطقة الشرق الأوسط، التى أشار إليها البيان، على أنها الأرض التى انطلق منها «إيماننا».
قال البيان نصاً:
** نتوجه بنظرنا أولاً نحو مناطق العالم حيث يعانى المسيحيون من الاضطهاد. يُقتل إخواننا وأخواتنا فى المسيح، فى عدد كبير من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أُسراً أُسراً وبلدات بلدات، تُدمر كنائسهم وتتعرض للنهب البربرى، كما تُدنس مقدساتهم وتُدمر مبانيهم. ونشاهد بألم شديد هجرة المسيحيين الجماعية من العراق وسوريا، وبلدان أخرى من الشرق الأوسط، وهى الأرض التى انطلق منها إيماننا، وحيث عاشوا منذ أيام الرسل جنباً الى جنب مع الجماعات الدينية الأخرى.
** ندعو المجتمع الدولى إلى اتخاذ إجراءات طارئة، من أجل تفادى استمرار طرد المسيحيين من الشرق الأوسط، وإذ نرفع الصوت من أجل الدفاع عن المسيحيين المضطهدين، نتماهى أيضاً مع آلام المؤمنين من جماعات دينية أخرى أصبحت هى أيضاً ضحية الحرب الأهلية والفوضى والعنف الإرهابى.
** حصد العنف فى سوريا والعراق آلاف الضحايا حتى الآن، حارماً ملايين الناس من المأوى والموارد، ندعو المجتمع الدولى إلى وضع حد للعنف والإرهاب والمساهمة، توازياً فى حوار قريب هادف إلى إعادة إرساء السلم الأهلى، إن المساعدة الإنسانية واسعة النطاق ضرورية للشعوب المتألمة واللاجئين الكثر فى البلدان المجاورة، نطلب من جميع القادرين على التأثير فى مصير المخطوفين، خاصةً ميتروبوليت حلب بول، وجان إبراهيم، المفقودَين منذ إبريل 2013، القيام بكل ما يلزم من أجل الإفراج عنهم سريعاً.
المهم أن هذا البيان جاء ليؤكد أهمية التلاقى الفكرى، والطائفى، فى هذه المرحلة الأكثر توتراً، ولذلك فقد نص البيان أيضاً على التالى: «لقد عقدنا العزم لبذل كل الجهود اللازمة من أجل تخطى الاختلافات التاريخية التى ورثناها، ولذلك نود حشد الجهود من أجل الشهادة لإنجيل المسيح والتراث المشترك لكنيسة الألفية الأولى، فنرفع معاً تحديات العالم المعاصر، على الأرثوذكس والكاثوليك أن يتعلموا تقديم شهادة واحدة للحقيقة فى المجالات التى تسمح بذلك، وحيث تدعو الحاجة، دخلت الحضارة الإنسانية لحظة تغيّر حقبة، ولا يسمح لنا ضميرنا المسيحى ومسؤوليتنا الرعوية بالبقاء مكتوفى الأيدى إزاء التحديات التى تتطلب رداً مشتركاً».
وما يهمنا أكثر هو ما جاء فى البيان نصاً أيضا: «الأرثوذكس والكاثوليك ليسوا متحدين فقط بواسطة التقليد المشترك لكنيسة الألفية الأولى، وإنما أيضاً من خلال رسالة التبشير بإنجيل المسيح فى العالم المعاصر، تستلزم هذه الرسالة الاحترام المتبادل لأعضاء الجماعات المسيحية، وتستبعد كل أشكال التبشير المتحمس، نحن لسنا متنافسين بل إخوة، وعن هذا المفهوم يجب أن تنشأ كل أعمالنا تجاه بعضنا البعض وتجاه العالم الخارجى، إننا نحث الكاثوليك والأرثوذكس فى جميع البلدان على أن يتعلموا العيش معاً فى السلام والمحبة، ويكون عندهم (اتفاق الآراء) (رو 15، 5). بالتالى لا يمكن القبول باستخدام وسائل غير مناسبة لدفع المؤمنين إلى الانتقال من كنيسة إلى أخرى، بإنكار حريتهم الدينية أو تقاليدهم الخاصة، نحن مدعوون إلى تطبيق مبدأ الرسول بولس: (واعتنيتُ ألا أبشر بالإنجيل فى موضعٍ دُعى فيه اسم المسيح لئلا أبنى على أساس غيرى) (رو 15، 20)».
أعتقد أن هذه المصالحة فى مجملها، وتلك الفقرة الأخيرة بصفة خاصة، هى رسالة إلى أولئك الذين يدقون طبول الحرب الآن طائفياً فى الأوساط الإسلامية، بين السُّنة والشيعة بصفة خاصة، بألا وجه للخلافات داخل الديانة الواحدة، وذلك لأن اختلافات المذاهب فى حد ذاتها رحمة، كما لا وجه للتوتر والتنافس بين الديانات المختلفة، لأن هذه سُنة الكون، وإرادة الله، ولذلك تجب الإشادة بما أكد عليه بيان كوبا من أن: «الحوار بين الأديان ضرورى فى هذه الفترة المقلقة، لا يجب للاختلافات على مستوى فهم الحقائق الدينية أن تمنع الناس من أديان مختلفة من العيش فى سلام ووئام، وفى ظل الظروف الحالية تُلقى على عاتق القادة الدينيين مسؤولية خاصة فى تثقيف المؤمنين على احترام معتقدات مَن ينتمون إلى ديانات أخرى، إن محاولات تبرير الأعمال الإجرامية من خلال شعائر دينية غير مقبولة أبداً، لا يجوز ارتكاب أى جرم باسم الله، لأن الله ليس إله خراب، بل إله سلام».
يا قوم: أى أُذنٌ تسمع، وأى عاقل يفهم.