يمكن، بل كان يجب، الاختلاف مع الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، الذى رحل عن دنيانا أمس الأول، فى بعض الرؤى والمسارات والأفكار والأدوار وكثير من التفاصيل التى تسكن كتبه وأحاديثه ومواقفه، والهوة بين حاله حين يكتب وحاله حين يتكلم، علاوة على إشاراته ومراميه من كل حرف يخطه، وكل معلومة يضن بها إلى أن يخرجها فى الوقت الذى يريد، وللشخص الذى يرغب فيه، لكن لا يختلف اثنان على قدراته الفائقة فى أن يبقى فى عين الأحداث والوقائع، مقبضا على طرف من التاريخ المعاصر، وقادرا طيلة الوقت على أن يتابع ويطالع ويتفاعل ويصيغ تصورات متماسكة حول الحال والمآل.
هيكل فى إمكاناته تلك يبقى شخصا غير عادى، قيمته الكبرى ليست فى أسلوب عرضه لأفكاره بطريقة سردية مدهشة، ومكنته فى صناعة مسار برهنة متين، يغذيه بكل ما تجود به قريحته وقرائح آخرين ينصت إليهم أو يقرأ لهم، وتوظيفه لكل ما وقع تحت عينيه ويده من وثائق خدمته الظروف فى أن يمتلكها، لكن أيضا فى أن يظل طيلة كل هذا الزمن حاضر الذهن، وقادرا على الإنتاج والإضافة وإثارة الجدل والاختلاف والخلاف، وهو يتنقل بين الصواب والخطأ، والخطأ والصواب، واثق الخطى، وسريع البديهة، غير مستغنٍ، لكنه غير متهافت.
القيمة الكبرى لهيكل هو المثل الناصع الذى تضربه مسيرته من أن الكاتب يجب أن يظل قابضا على قلمه، حتى وإن تقدم به العمر، لا يكلّ ولا يمل ولا يكسل، ولا ييأس، فالعرق وبذل الجهد والدأب والتجويد هى إحدى الركائز الأساسية للنجاح، والدعائم الرئيسية للتقدم. وهذا تقليد جيل كبير، يدرك أن العطاء لا عمر له، وأن التطوير والتحسين والتجويد فريضة، وأن الاتكاء أو الاتكال على ماضى يتسرب رويدا رويدا هو انتحار. هكذا فعل نجيب محفوظ حين ظل يكتب حتى آخر لحظة ويقول «أغلب العبقرية تعتمد على بذل الجهد»، وهكذا كانت أم كلثوم، تخاف حين تصعد المسرح، وهى على عرش الغناء، وكأنها تواجه الجمهور للمرة الأولى. وهيكل من ذلك الصنف من البشر، الذى نحتاج إلى أن نتعلم منه تلك القيمة، حتى لو اختلفنا مع توجهاته وتصوراته وتجاربه وخبرته ووعيه.
والقيمة الأخرى لهيكل هى قدرة الكاتب على تحمل ضربات لا تتوقف من كثيرين، خصوم سياسيين موجهين ضده من سلطات تتعقبه، كانت ولا تزال، هنا وهناك، وآخرين مختلفين إلى حد جارح وبارح مع أفكاره وتوجهاته، ولهم الحق والحرية فى هذا الاختلاف، وبعض العابرين أو المتعجلين الذين يريدون أن يلقوا بأنفسهم فى دائرة الضوء بمهاجمته لتصل إليهم أصداء شهرته، وكذلك متحفظون على أدوار للرجل انحازت فى أغلب الأحيان إلى مصلحة الحكم، الذى ظل هيكل يدور حوله حتى وإن اكتوى به، تماما كفراشة تعشق اللهب، ناره ونوره. فهيكل تعامل مع كل ناقديه هؤلاء بصبر وأريحية يحسد عليها، ولم ينزلق يوما فى معارك صغيرة على كل هذه الجبهات، والمرة الأساسية التى نازل، حتى تجاوز فى الخصام، كانت مع صاحب أكبر منصب فى الدولة، وهو الرئيس الراحل أنور السادات، حين أتى على ذكره بكل بارح وجارح فى كتاب «خريف الغضب».
والقيمة الثالثة لهيكل هى قدرة الكاتب على ألا يجعل نبعه يجف، ومعينه ينضب. فقد قيل إن الرجل قد انتهى حين انقطعت أسباب اتصاله بالسلطة السياسية أيام عبدالناصر وأول عهد السادات، لأنه فقد مصدر الخبر والمعلومة والوثيقة، وقبل كل هذا فقد النظر إليه باعتباره خبيرا ببواطن الأمور، أو مشاركا فى صناعة القرار، وليس فقط مطلعا عليه، أو يشم رائحته من بعيد. لكن هيكل فاجأ الجميع بقدرته على أن يكون دوما مصدرا لأخبار ومعلومات، ويكون كثيرون فى انتظاره ليقول رأيه فيما يجرى.
فى حياة هيكل كتبت بعض مقالات متفرقة، أناقشه وأشاكسه فيها، كان أهمها «المسكوت عنه فى مقالات الأستاذ هيكل» علقت فيه على تلك المقالات الخمسة التى نشرتها «المصرى اليوم» بعد أكثر من ربع قرن على منعها من قبل حسنى مبارك شخصيا، وأذكر أننى اختلفت مع كثير مما جاء فيها، وهذا حقى رغم اتساع الهوة فى العمر والصيت، لكن لم آتِ على أى شىء يجرحه، وهذا حقه، كرجل ألف كل هذه الكتب، التى سيبقى منها كثير، يجب الرجوع إليه لمعرفة قسط من تاريخ بلدنا، وعلاقة السلطة بالصحافة، وارتباطات مصر العربية والدولية.
بدا الأستاذ هيكل فى نظرى طيلة الوقت روائيا ضل طريقه إلى الصحافة، وصحفيا جذبه هيلمان السياسة، وسياسيا اتخذ من الصحافة كرسيا دائما لم يستطع أحد أن يزحزحه منه حتى الرمق الأخير، يستخدم هذا الخليط العجيب بين السياسى والروائى والمؤرخ والمفكر الاستراتيجى فى مقالاته تلك، ليقول للزمن القادم: كل لبيب بالإشارة يفهم، ويقول للحظة الراهنة: إياك أعنى واسمعى يا جارة.
رأيت الأستاذ هيكل فى حياتى ثلاث مرات، اثنتين عابرتين والأخرى كانت لقاء مطولا فى مكتبه، الأولى والثانية كنت فيهما مجرد طالب بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية يجلس فى مدرج «محمود خيرى عيسى» لينصت إلى محاضرة لهيكل، والثانية كنت باحثا فى العلوم السياسية مشاركا فى أحد المؤتمرات السنوية لمركز البحوث والدراسات السياسية بالكلية، وكان الأستاذ حاضرا فى القاعة، ويومها أرسلت إليه سؤالا مكتوبا فى ورقة عن رأيه فى قول مبارك إنه «تعلم الإدارة من ميس الضباط، وتعلم الديمقراطية فى القوات المسلحة»، ووضعت علامة استفهام وثلاث علامات تعجب على سؤالى، وتابعت بعينى هيكل وهو يقرأ سؤالى، ثم يطوى الورقة ويضعها فى جيبه ويبتسم صامتا، ولا يجيب.
المرة الثالثة كانت مقابلة فى فبراير 2012، حددها الصديق الدكتور عبدالخالق فاروق الخبير الاقتصادى الكبير، يومها قابلنا الرجل هاشا باشا، وراح يتحدث عن المشهد الذى كان قائما، وفهمت أنه يتابع كثيرا مما يكتب من مقالات وتحليلات حتى لجيلى ومن يصغرونه. وسألته يومها إن كان قد فكر فى كتابة قصة أو رواية فى أى يوم من حياته، فابتسم وقال: كتبت قصيدة شعر فى ابنة الجيران، ودسستها فى يد الخادمة لتعطيها إياها سرا لكنها أعطتها لأمها، فذهبت لأمى شاكية، وكان نصيبى تأنيبا شديدا، وبعدها أقلعت عن كتابة الشعر، لكن بقيت طيلة الوقت أتذوقه، وأحرص على حفظه، وأرى من بين أبياته أمورا كثيرة.
وتنبه الأستاذ إلى ما قلته، فسألنى: ما السبب فى سؤالك؟ فقلت له: أرى أن كتبك تنطوى على روح سردية جارفة، فأنت تكتب السياسة بتقنيات أدبية فى اللغة والصورة والحوار والسرد وبناء الشخصيات، وأعتقد أنه قد يكون من المفيد أن يقوم طالب بكلية الآداب أو دار العلوم أو غيرهما على تسجيل أطروحة للدكتوراه حول تحليل أعمالك فى الشكل والمضمون من زاوية أدبية أو نقدية. كان هذا قبل سنتين ونصف من فوز الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش بنوبل للآداب، وهى التى كتبت السياسة بطريقة سردية، وجمعت مادتها وفق عمل صحفى محترف، وكتبت الأدب وفق رؤية وموقف سياسى.
ولأن الأستاذ هيكل رجل فطن، فقد أدرك جانبًا مما أقصده، وفهم أن فى هذا المسلك ما قد يضر ولا يفيد، لأن معناه أن هذه الكتب فيها من الخيال بقدر ما فيها من الواقع والتاريخ حتى لو كان «الخيال التحليلى»، فقال لى: ليس الآن، حين أموت افعلوا ما شئتم.