(1)
لن أكتب عن استقالة المستشار سري صيام، فهي (في ذاتها) لا تزيد من وجهة نظري عن خبر مثير، تلوكه آلة الكلام لبعض الوقت، قبل أن تنساه جريا وراء خبر آخر.
(2)
سأكتب عن مشكلة عويصة تعرضت لها في زمان الفيديو، وبرغم انقضاء ذلك الزمن، إلا أن المشكلة تحولت عندي إلى محطة فلسفية للتأمل ومنهج في التفكير، الحكاية أنني اقتنيت جهاز فيديو في وقت مبكر عند ظهور ذلك الاختراع المثير في سبعينيات القرن الماضي، ومع أوائل الثمانينات كنت أقضي وقتا طويلا في مشاهدة الأفلام والمسرحيات على ذلك الجهاز، وذات ليلة (وكنت قد حصلت على نسخة مصورة من مسرحية «كاسك يا وطن» لمحمد الماغوط ودريد لحام) رفض جهاز الفيديو أن يعمل، بذلت كل المحاولات، لكن ظل مضربًا يضيء ولا يعمل، وبينما أنا منهمك في تصرفات هيستيرية، كررت فيها عشرات المرات خلع الفيشة وتركيبها، والضغط على التوصيلات، اتصل جاري المهندس الشاب على تليفون المنزل لشأن آخر، فأخبروه أنني منشغل ومتوتر في كذا وكذا، فتطوع للمساعدة، وبعد دقيقة من تفقده للفيديو سأل عن سيشوار!، ووسط التعليقات الساخرة عن علاقة الفيديو بالسيشوار، سمعت صوت الممثلة صباح الجزائري التي قامت بدور المذيعة في «كاسك يا وطن» تقول بلهجتها المميزة: أيها المواطنون/ مع الكلمة المقاتلة واللحن الملتهب، مع مطرب النضال والمعارك الطاحنة سمير حلمي في آخر أناشيده الوطنية... وإذا بمطرب المعارك يغني: هل رأى الحب سكارى مثلنا...
(3)
قفز قلبي من الفرحة، أخيرا سأشاهد المسرحية الشهيرة كاملة، لكن الفرحة لم تنسني مشكلة إضراب الفيديو عن العمل، فسألت جاري المهندس: إيه مشكلته.. كان عطلان ليه؟، فقال: مش عطلان ولا حاجة، بالعكس دا توقفه حماية من الأعطال. ازدادت دهشتي وسألته: كيف؟. فقال: الأجهزة الحديثة لديها مؤشر أمان يسمى «مصباح الرطوبة»، فعندما تتغير درجة الحرارة بشكل مفاجئ، يزداد تكثف بخار الماء داخل الجهاز، وتزيد نسبة الرطوبة مما يعرض الجهاز وشرائط الفيديو للتلف، وفي هذه الحالة يتوقف الفيديو عن العمل، ويضيء المصباح ليخبرك أن البيئة غير صالحة للعمل، وهذا يعني عدم جدوى أي محاولة للتعامل مع الجهاز نفسه (كما فعلت أنت لعدم خبرتك)، فالحل في إصلاح البيئة المحيطة، وتوفير المناخ الملائم لعمل الجهاز بلا مخاطر أو تعطيل..
(4)
البيئة هي المشكلة وليس الجهاز؟!..
آآآآآآه، تلاقيه ياعيني متوتر زي حالاتي، وعمال يخلع فيشة ويركب فيشة، يشيل وزير ويحط وزير، ويقول للفيديو: ما يصحش كده، من غير أن يفكر في البيئة التي أدت إلى استقالة البرادعي، وتهميش الشباب، وإقصاء مصطفى حجازي، وحل جبهة الإنقاذ، وتجاهل حمدين صباحي، وعدم الاهتمام بمغزى وأسباب استقالة رئيس محكمة محتجا على تصرفات وزير العدل بالاسم، حتى وصل الأمر إلى استقالة نائب اختاره الرئيس بالتعيين في البرلمان لشعوره بالإهانة من التهميش والعزل، وهي سابقة أظنها تتضمن إهانة رمزية لمقام وتقديرات الرئاسة، ولعل سيادته لم يعرف حتى الآن قصة «مصباح الرطوبة»، ولم يشاهد اللمبة المضيئة التي تحذر من سوء المناخ، فلم يهتم بالتصاعد الملحوظ في إحجام الجماهير المتحمسة عن المشاركة بعد أسابيع قليلة من تفويض 26 يوليو، وقد بدا ذلك واضحا للخبراء في انخفاض معدل التصويت في انتخابات الرئاسة، ولذلك تم تمديد فترتها ليوم إضافي لتعويض الإحجام العقابي، الذي زادت درجته في استفتاء الدستور، ووصل «الانسحاب العقابي» إلى درجة الإحراج الشديد في الانتخابات البرلمانية، لكن كان هناك من يقول: طظ، اللي ينزل ينزل، واللي ما ينزلش ما ينزلش، البرلمان هيتعمل وخلاص.
(5)
هذا المناخ الضبابي، الإقصائي، الخطر، لم يكن مبررا واهيا اختاره البرادعي للهروب من الساحة، ولم يكن اختيارا حرًا لشباب الثورة، ولم يكن مجرد تغيير بريء لشخصيات مثل كمال أبوعيطة، وحسام عيسى ومصطفى حجازي، ولم يكن رغبة في المعارضة عند المستشار السحيمي، ولا نزوعًا للتخلي عند قاضي القضاة سري صيام، الذي تمرس على العمل مستشارًا تحت نفس القبة في زمن فتحي سرور، الممتد!.. لكن البيئة السياسية صارت فاسدة وطاردة بدرجة لم يعد يتحملها حتى أبناء النظام القديم نفسه، مثل السحيمي الذي يتحدث عن علاقة بابا بـ«أونكل» الزند، وعن حقوق الصداقة و«عضم التربة» قبل أن يدافع عن قيم الدستور وأحقية دولة القانون، ومثل سري صيام «الأسطى» الذي تربى على حب المشاركة والتفاني في التعاون مع «الترزية الكبار»، لكن مصباح الرطوبة لديه أضاء اعتراضا على هذه البيئة الخطرة، فلم يتحمل أن يتعامل معه محدثو السلطة باعتباره «صبيًا» بلا دور!
(6)
يا سيد القصر.. انظر حولك، التقط الإشارات، افهم المغزى، إنهم يحاصرونك في دائرة ضيقة من الأكاذيب، الأحمر الذي تحتك ليس سجادة الاحتفالات المبهجة، لكنه نار الغضب، والهدوء الذي يحيط بك، ليس دليلا على الرضا والسكينة، لكنه الخواء، أنصارك ينسحبون من صفك يأسًا، ومصر تستقيل.. مصر تبتعد وتعود إلى الشارع بعد أن «استعوضت» ربها في رهانها على القصر..
فهل آن الأوان أن تنتبه أم أن هذا ما تريد؟
جمال الجمل