تتذكرون أجهزة كشف وعلاج الفيروسات السحرية، التى اختفت مع قدوم منتصف ليل (30 يونيو 2014) كما فى قصة «سيندريلا»؟ لمن لا يتذكر التفاصيل، اشتهر النوع الأول بـ«إريال» عبدالعاطى والثانى بجهاز الكفتة، رغم أن أول مَن قام بالترويج لجهاز الكشف (الإيريال) لم يكن اللواء عبدالعاطى، إنما بعض «المؤهلين» فى مجال الطب على أعلى مستوى تنتجه المحروسة.. وربما على هذا الأساس تم تعيين أحدهم فى المجلس، لينوب عن الشعب الموبوء فى قضايا الصحة، فالجهاز اختفى والحمد لله، لكن المنهج الذى أتى به مازال قائما، ولو جزئيا.
والآن، تقول نقابة الأطباء إنها تريد ممن قاموا بتبنى هذين الجهازين الاعتذار للشعب المصرى، لأنهم تسببوا فى إيهام المرضى بوجود علاج سهل، بدلا من علاج الإنترفيرون الشاق، والنتيجة كانت إقلاع الكثير منهم عن الأخير، فتدهورت صحتهم.. تقول النقابة إنها تنوى إحالة المسؤولين عن المذبحة للتحقيق، وهذه ليست المرة الأولى التى تعلن فيها النقابة عن ذلك، فكان هناك إعلان مماثل منذ عام، ولا أعلم ماذا حدث.. لذلك، سأركز هنا على مطلب «الاعتذار».
أول سؤال يأتى فى الذهن: هل ما حدث نتيجة جهل، أم نصب عمد؟ الرد بالطبع أن هناك مزيجا من الصنفين، بل أكثر من ذلك، فلا يمكن فصل جانبى المأساة بسهولة.
أولا: هناك قصور معرفى (أى جهل سائد) واضح فى صلب المسألة، ناتج عن عزلة مفزعة عن العالم المعاصر وما يحدث فيه، جعلت البعض يتمكن من التمادى فى العبث.. فجهاز «الإيريال»، الذى ادعى البعض أنه يكشف عن الفيروسات، بدأ حياته ككاشف للمتفجرات، بل لايزال يُستخدم حتى الآن لهذا الغرض فى بلدنا «المحروسة»، فتجد مَن يحمله من أفراد الأمن أمام المنتجعات السياحية (كما لاحظ الكثير من الصحفيين الأجانب عقب انفجار طائرة شرم الشيخ)، وأيضا «الكومباوندز» (على أبواب «مدينتى» العالمية على أرض مصرية مثلا)، وحتى أمام بعض الجامعات والهيئات الميرى.. هذه «الأجهزة» ابتكرها وباعها أولاً أحد المحتالين البريطانيين، ويُدعى «جامز مكورميك» (خلال الحرب فى العراق)، وعند اكتشاف الموضوع، أخذ عشر سنوات سجنا على «ابتكاره» هذا، كما أخذ آخرون مثله عقوبات مماثلة، بل إن أمر ادعاء إمكانية الكشف عن أشياء- مثل المياه والمعادن وغيرها- عن طريق «أجهزة» مماثلة له تاريخ طويل، يرجع إلى نهايات العصور الوسطى (حاول أن تبحث عن Dowsing rod على جوجل مثلا). مع ذلك، ادعى البعض عندنا (ومنهم «أساتذة كبار» ورتب) أن هذه الأجهزة السحرية يمكن أن تكشف أيضا عن الفيروسات.. و«عدى الموضوع»، بل تطور الأمر حتى وصل إلى ادعاء إمكانية العلاج السحرى.
الموضوع لا يتعلق فقط بعزلة معرفية، وغياب المعايير التى يمكن من خلالها تقييم الأطروحات، إنما أيضا بغياب أى سمات للجدية والصدق والانضباط فى نمط تصور العالم وآلياته.. بالإضافة إلى خطورة ذلك فى حد ذاته، فما يضاعف المأساة أنه يصاحبه إفلاس أخلاقى، لأنه دون أى انضباط عقلانى يصبح الإنسان كالحيوان، غايته الوحيدة إرضاء الغريزة- سلطة وتسلط وهيبة ومال إلخ- فتصبح هى وحدها التى تحركه دون قيد أو شرط. فى هذا الحال، حتى المرء الذى يعلم كل ما قلته وأكثر يمكن أن تحركه النزعات الانتهازية أو «التسلقية» فى طريق أعمى.. بعيدا عن البحث عن الحقيقة أو تنظيم العالم بطريقة عقلانية، وهو السبيل لابتكار أجهزة فعالة فعلا (طبية كانت أو غيرها)، تتماشى أسس عملها مع منطق العالم المادى الممثل فى قوانين الطبيعة.. بعيدا عن القدرة على تحقيق نجاحات حقيقية عن طريق منهج فكرى صارم دقيق، ما يتطلب الكثير من الجهد الذهنى والصدق والمصداقية الفكرية.
الأزمة إذن تنتج عن فقر معرفى وفكرى وإفلاس أخلاقى مصاحب، وناتج لحد كبير عن الفقر والكسل الفكرى نفسه، والمأساة تكمن فى أن تصبح تلك «القيم» هى السائدة، فلا تعبر عن شذوذ بل عن القاعدة.. ولا يمكن فى هذا الإطار استبدال العقلانية بالتدين الحرفى فى سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أخلاقيات، لأنه فى مثل هذه الظروف يصبح الدين نفسه وسيلة لإشباع غرائز ونزعات لا أخلاقية (فمَن وزع أجهزة «إريال المتفجرات» على المنتجعات والجامعات كان غالبا متدينا).
لن يعتذر أحد. لماذا يعتذر إذا كان منطق النفعية البحتة هو المعيار المجتمعى المتبع للصعود (والتعيين فى البرلمان)، حتى إذا اعترض البعض؟ لا أعتقد أنهم سيعتذرون طواعية، وبالقطع لن ينتحروا إحساسا بالخجل، كما فعل باحث يابانى مرموق فى نفس صيف 2014، بعد الكشف عن «فبركة» نتائج أحد الأبحاث التى شارك فيها فى مجال الخلايا الجذعية، وذلك رغم تاريخه العلمى الذى كان على أعلى مستوى عالمى، والذى يشفع له نسبيا.. ورغم أنه لم يتسبب فى إهدار الأرواح بالترويج للسحر الأسود.