هذه امرأة لها قصة سوف تظل مروية عبر الزمان، ولستُ أعود إليها، اليوم، من باب استهلاك الوقت، وإنما من باب أن يقتدى بها كل قادر مادياً فى بلدنا، ليصبح هذا البلد أفضل مما هو عليه الآن، إذ لابد أنه يستحق الأفضل بكثير وبكل معيار، ولن يكون فى موقع أفضل إلا بأيدينا نحن، خصوصاً أيدى المخلصين له بيننا، لا بأيدى غيرنا أبداً!
والقصة من أولها، أنى تلقيت العدد الأخير من مجلة «ذاكرة مصر» التى تصدر عن مكتبة الإسكندرية، كل 3 أشهر، ويشرف عليها الدكتور إسماعيل سراج الدين، ويرأس تحريرها الدكتور خالد عزب.
فى المجلة مقال كانت مجلة «الصباح» قد نشرته فى 2 يناير 1938، ويروى حكاية زفاف أبناء الخديو إسماعيل الأربعة: توفيق، وحسين، وحسن، ثم فاطمة التى أقصدها من وراء هذه السطور كلها!
كان الخديو إسماعيل قد حكم مصر، من عام 1863 إلى 1879، وكان من الذين بنوا فى هذا البلد وأضافوا إليه الكثير، وقد جاء عليه وقت قرر فيه أن يُزوّج أولاده الثلاثة، فى وقت واحد، واشتهرت الحكاية وقتها وبعدها، بأنها: أفراح الأنجال!
وقد انتهزت والدة الخديو الفرصة، وقررت أن تُزوّج الأميرة فاطمة، أخت الأمراء الثلاثة، معهم، وهو ما حدث، فدامت الاحتفالات بزواج الأربعة، أربعين يوماً، كانت حديث الدنيا.
وكان ضيوف الاحتفالات مدعوين لتناول 4 وجبات يومياً، لا ثلاث وجبات.. وكان الإفطار على النحو الآتى: قهوة بلبن، زبدة، بيض برشت، أو بيض على الصحن، شيكولاتة، بسكويت، مربات!
أما الغداء فكان هكذا: مكرونة، أرز مفلفل بخلاصة رؤوس الضأن والعجول الصغيرة، صحن لحم بارد، صحن طيور مشوية، صحن لحم مطبوخ بالخضروات، بطاطس على الطريقة الإنجليزية، أربعة أصناف توابل، أربعة أصناف فواكه، خمسة أنواع من الجبن، قهوة، أشربة مختلفة!
وكان العشاء هكذا: شوربة منوعة، صحن سمك، صحن لحم، صحن طعام ساخن، صحن طعام بارد، طيور مشوية، سلطة خضراء، صحن خضار مطبوخ، صحن حلويات، صحن قشدة منوعة التراكيب، مجموعة أصناف فواكه، جبن، قهوة، أشربة مختلفة.. أما الوجبة الرابعة، فكان اسمها عشاء نصف الليل، وكانت هكذا: لحوم باردة، فواكه مجففة، مكسرات.
وفى زفاف فاطمة: جلست الوالدة باشا على اليمين، وأم العروس على الشمال، والعروس فى الوسط، وعلى رأسها تاج ثمنه 40 ألف جنيه «بأسعار وقتها طبعاً» وكان فستانها من الحرير الأبيض الفرنساوى الأغلى ثمناً، وكان مُرصّعاً بأنفس أنواع اللؤلؤ والماس، وكان له ذيل طوله 15 متراً، وقد رفعته الجوارى وراءها، وهنَّ راكعات!
أما فاطمة، فقد أوقفت ثلاثة آلاف فدان، من أجود أطيانها بالمنصورة، لمشروع إنشاء الجامعة الأهلية، التى هى جامعة القاهرة حالياً، وباعت مصاغاً لها فى سبيل إنشاء الجامعة، وكان نبأ الوقف حديث المجالس كلها فى ذلك الزمان، مما دفع القادرين إلى أن يحذوا حذوها، ويتبرعوا بمبالغ طائلة للمشروع، ولايزال اسمها منقوشاً على مدخل كلية الآداب، ذاكراً لها هذا الفضل إلى اليوم، وسوف يظل يذكره!
أغنياء بلدنا، ومقتدروه، مدعوون إلى أن يعيدوا مجد فاطمة، وفى التعليم الأهلى خصوصاً، لأنه هو التعليم الحقيقى، لا الحكومى، ولا الخاص، ولأنه لا نهضة لبلدنا إلا به هو.. فلا تخذلوا البلد يا أيها المقتدرون، وكونوا مثل فاطمة، وأحسن!