x

أحمد الدريني أرسطو الذي لا تعرفه مصر أحمد الدريني الثلاثاء 02-02-2016 21:28


لا أظن الاحتفاء الذي قوبلت به استقالة القاضي السحيمي (قبل أن يتراجع عنها باعتذار مموج في لغته ومصطنع في منطقه، وقبل أن ينفي التراجع في رواية أخرى!) إلا لأنها، على نحو ما، كسرت جمود وركود لغة السياسة في مصر منذ العقود التي احتكر فيها مبارك حكم البلاد وحتى اليوم.

فبالرغم من الأحداث الجسام التي طحنت البلد بين فكيها منذ يناير 2011 وحتى اللحظة، لم يتواز معها خطاب سياسي ولا اشتباك قانوني، وضع الأمور في نصابها ووصف «الحال» بوصفه الدقيق.
نحن بصورة أو بأخرى أسرى لغة آسنة تتحدث عن الرئيسين اللذين تبادلا «وجهات النظر المشتركة» وعن وزيري الخارجية اللذين أكدا على «تطابق الرؤى الإقليمية» وعن رئاسة الوزراء التي تعمل من أجل «مصلحة المواطن ولتوفير السلع الضرورية».. هكذا في دوامة من الصياغات البليدة المتكررة بلا ابتكار ولا تغيير يعكس أن ثمة تغيير ما اجتاح البلاد.
العلاقة بين اللغة والمنطق وثيقة، فلا المنطق يستقيم دون إدراك لأدوات اللغة وطرق استخدامها وما يترتب على كل لفظ من معنى، ولا اللغة تستقيم إذا لم يكن المنطق هو أساس جملتها وفكرتها. وفي مصر لا اللغة ولا المنطق، أيهما أو كليهما، يمثل حضورًا في المشهد العام.
فلا النظام يرد على التساؤلات الموجهة نحوه بإجابات في صلب الموضوع، ولا معارضوه يلتفتون إلى ما فوت وفرط النظام من المنطق، متفرغين للسخرية وإعادة انتاج الغضب من إجابات لا تعني أحدًا.
وهكذا دواليك، نغرق في دورة وهمية من إجابات لا تعنينا، يترتب عليها سخرية لا تريد أن تقف موقفًا جادًا أمام طوفان الهزل الذي تنتحله الحكومة وأجهزتها في ردودها البديعة.
فالمسؤول الذي يتصور أن إصلاح الطرق سيزيد من وتيرة الحوادث أو صاحبه الذي يرى أن مشافي مصر خير من مشافي بريطانيا أو الذي يتوهم أن نظامنا التعليمي هو الأكثر روعة على سطح الكوكب، ليس مسؤولا يخوض جدلا سياسيا بأدواته المعهودة من تضليل (ولو في حدود) وكذب (محبوك غالبا) وإعادة صياغة للأمر الواقع (ذكية أغلب الوقت)، بمقدار ماهو شخص بحاجة إلى العلاج النفسي السريع من «حالة الإنكار» التي تتلبسه.
ولا أخوه المسؤول الذي يعايرنا بأن علينا أن نحمد الله على الزيادات الضريبية ذلك أن الخيار البديل هو التحول إلى السيناريو السوري أو البديل العراقي أو الملحمة الليبية.
وكأنه ليس من حقنا الطمع في السيناريو الإماراتي مثلًا، أو –وبتحفظات عنيفة- الحالتين التركية والإيرانية، وكأن ورقة الإجابة لا تخرج عن سوريا وليبيا والعراق.
هذه الردود المستفزة لا تساق كمعطيات منطقية واردة بمقدار ما هي تمثيل حي للاستخفاف العقلي الذي نتعرض له ولمستوى المسؤولين الآخذ في التردي حتى على مستوى تكييف قرارات الدولة أو محاولة شرحها ومنطقتها أو حتى تمريرها بأقل غضب شعبي ممكن.
وربما يجدر هنا التوقف أمام الخطاب الرسمي الداخلي للنظام السوري المجرم بقيادة السفاح بشار الأسد، وهو يقود بلدًا مهلهلا وسط مأساة إنسانية دامية ووسط حصار دولي عنيف وسخط إقليمي بالغ ووضع عسكري مزر واقتصادي مترد.
بالبرغم من كل هذا الشتات والتشرذم إلا أن النظام مايزال قادرًا على صياغة أفكاره بجلاء وطرح رؤيته بإلحاح لا يعوزه المنطق ولا تخذله اللغة. ففي دمشق التي يتمزق لها القلب، تصدر افتتاحيات الصحف المؤيدة لبشار واثقة من نفسها مطمئنة لمنطقها، تحترم عقل قارئها حتى وهي تماطل وتزين وتراوغ.
هناك شيء ما أنيق وواثقٌ في إطلالة الدولة المهلهلة التي يقودها سفاحٌ ورثها عن سفاح، هناك شيء ما يراعي أن كل ظلم وطغيان لا يغطيهما –على الأقل- صياغة لغوية محكمة ومنطقٌ يراعى أبجديات الأشياء، فإنه لن يجد يوميًا خطابًا يغذي ضرورة بقائه، ولو كان هذا البقاء مفروضًا بالسلاح وبالدعم الروسي الهائل.
الفكرة ليست في الإجرام وقدرة اللغة والمنطق في الخطاب السياسي العام على تسويغهما، بل الفكرة في احترام الناس وعقولهم. ففي الإمارات الشقيقة التي تبعد عنا «مسافة السكة» تعتقد الدولة أنها تحكم مواطنًا تعرفه بالاسم والوصف والميل والهوى، وهي تحترمه وتحترم رغباته، وينعكس ذلك على لغة مخاطباتها الرسمية لشعبها.
أي نعم هي مخاطبات لا تحتاج لخوض جدل سياسي أو لتمرير شيء ما، إلا أنها آدمية في منطقها ومحترمة في فكرتها ومهذبةٌ في لغتها، لذلك تستأثر الحالة الإماراتية بقلوب وعقول الجماهير حول العالم العربي.
أما نحن فمن نصيبنا بليد القول مرسله، أو منحطه سافله!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية