تبدو موقعة الجمل بالنظر إلى المشهد الذي بدأت به كحرب أهلية من العصور الوسطى، أشخاصاً يمتطون الجمال والخيول وسط الآلاف من المعتدين الذين جاءوا لتفريق متظاهرين سلميين قرروا الاعتصام بميدان التحرير حتى رحيل الرئيس مبارك، الذي أبى من ناحيته عن الاستجابة لمطالب المتظاهرين، وقرر معاندة التاريخ مرة أخيرة، قبل أن يرفضه الشعب إلى الأبد أثناء مشاهدتهم لبعض أركان نظامه يقودون البلد نحو «حرب أهلية» كان بطلها الجمال والخيول حيث انساقت إلى الميدان، ووقفت حائرة تتابع في فزع الاشتباكات، التي جرت طوال اليوم نفسه.
«المصرى اليوم» ترصد 10 مشاهد صنعت موقعة الجمل من خلال نص التحقيقات التي انتهت بتبرئة كل من اتهم في الموقعة، وشهادات الخيالة أنفسهم وأصحاب الاسطبلات في نزلة السمان.
المشهد الأول: قبل يومين على أحداث الموقعة
يجتمع شريف والى، أمين الحزب الوطنى في محافظة الجيزة، بأعضاء الحزب الوطنى السابقين من نواب مجلسى الشعب والشورى، وأعضاء المحليات، عند ميدان الرماية.
ويقول يوسف عبداللطيف هندواى خطاب، الذي كان متهماً في القضية، خلال التحقيقات: «نظم الأعضاء مسيرة انتهت في ميدان مشعل بشارع الهرم، وكان يوجد بها عدد من الخيالة والجمالة من منطقة نزلة السمان، كانت الخيالة ترفع لافتات تبدى تضررها من قرار زاهى حواس، وزير الآثار الأسبق، الذي منعهم من دخول الأهرامات، بعد سنوات على بناء السور الذي عزلهم عن الركض بالقرب من حرم الأهرامات وأبوالهول».
المشهد الثانى: خطاب عاطفى أطلق شرارة العنف
مساء الأول من فبراير، يعلن الرئيس مبارك، خلال كلمة بثها التليفزيون المصرى، عدم الترشح لفترة رئاسية جديدة، ويطلب من المتظاهرين الانتظار حتى انتهاء مدة رئاسته في سبتمبر من عام 2011، موجهاً خطابه إلى الشعب الذي عليه أن يختار بين «الفوضى أو الاستقرار».
في ذلك الوقت، وبينما كان المتظاهرون في ميدان التحرير يرفعون الأحذية في وجه الشاشات التي كانت تبث الخطاب، معلنين رفضهم بقاء مبارك يوماً بعد بداية الثورة، كان عبدالناصر الجابرى، عضو مجلس الشعب عن الحزب الوطنى، والمتهم السادس، يقوم بتجميع الخيالة والجمالة أمام منزله بميدان أبوالهول، ودار بينه وبينهم اتفاقاً على تنظيم مظاهرات منذ صباح اليوم التالى تنطلق من ميدان الرماية.
المشهد الثالث: ترتيبات الموقعة
بعد خطاب مبارك، اتصل شريف والى، أمين الحزب الوطنى في الجيزة، بيوسف خطاب، نائب الدائرة السابق في مجلس الشورى، وأحد المتهمين في القضية.
اعترف خطاب، خلال التحقيقات، بأن شريف والى طلب منه ومن أعضاء الحزب الوطنى الآخرين في المحافظة، خلال المكالمة، بأن يقوموا بحشد أنصارهم من محافظة الجيزة لتنظيم مظاهرة في صباح 2 فبراير 2011، بناء على تعليمات من صفوت الشريف، أمين عام الحزب الوطنى، ورئيس مجلس الشورى، آنذاك. على أن تبدأ المظاهرة بتجمعهم أمام جامعة القاهرة ثم تنطلق بمسيرة إلى ميدان مصطفى محمود تأييداً للرئيس.
يشهد واحد من الخيالة بنزلة السمان يدعى كامل على عتريس إسماعيل، خلال تحقيقات القضية، أنه خرج في صباح 2 فبراير 2011 مع نجله بالكارتّة، ووجد تجمعاً من نحو 200 شخص من أصحاب الخيول والجمال، أمام منزل عبدالناصر الجابرى، الذي استقل الكارتة الخاصة به، وطلب منهم أن يتبعوه إلى ميدان مصطفى محمود.
المشهد الرابع: بداية التحرك
انطلقت المسيرة التي قادها عبدالناصر الجابرى إلى شارع الهرم، يقول يوسف خطاب خلال التحقيقات، إنه التحق بالمسيرة في شارع بين السرايات، متأخراً، ووجد والى والجابرى في كارتة مع حسين محمد غنيم، عضو مجلس مدينة الجيزة، ومن حولهم 6 كارتات أخرى، و10 جمال ومثلهم من الخيول يمسك راكبيها الخرزانات والأمش التي يقودون بها الخيل، ويحملون لافتات ويعلقون صور حسنى مبارك على صدورهم، ويهتفون: «اللى يجب مصر.. ما يخربش مصر».
يوضح طارق مندى، صاحب أحد الإسطبلات في منطقة نزلة السمان، لـ«المصرى اليوم» أن هؤلاء الخيالة لم يكن من بينهم أحد مسيس، كانوا مساكين قطعت أرزاقهم بعد بناء السور الذي أحاط الأهرامات، لذلك استغل الجابرى ذلك. يضيف: «الناس اللى راحت غلابة، الخيل كانت بتموت ومش لاقية اللى يأكلها، قالولهم روحوا اتظاهروا عند المحافظة».
المشهد الخامس: «مصطفى محمود» منصة الانطلاق
وصلت المسيرة إلى ميدان مصطفى محمود في ظهيرة اليوم، رآها اللواء فؤاد علام، وكيل جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق، وشاهد الإثبات الأول في القضية، يقول، خلال التحقيقات، إنه شاهد أعدادا كبيرة من المتظاهرين، بالقرب من مسكنه بميدان مصطفى محمود، يمتطون الخيل والجمال ويحملون أسلحة بيضاء وعصى وكرابيج وصوراً ولافتات تؤيد الرئيس السابق حسنى مبارك، كانت الأعداد تزيد على 20 ألفاً، وكان هناك مجموعة من الشخصيات العامة من الفنانين ولاعبى الكرة.
يقول أحد المشاركين في موقعة الجمل، لـ«المصرى اليوم»، رفض ذكر اسمه، «فجأة لقينا الكاميرات بتبث المظاهرة من شاشات موجودة في الميدان، هتفنا «مش هيمشى.. مش يمشى»، واتصورنا مع الفنانين، أفتكر إن أحمد السقا كان موجود واتصورت معاه».
المشهد السادس: القيادة نحو المجهول
يروى طارق مندى، صاحب إسطبل مندى بنزلة السمان، لـ«المصرى اليوم»: «قاد الجابرى الخيالة من ميدان مصطفى محمود إلى ماسبيرو»، يضيف مازحاً: «العيال اللى شغالة على الجمال هما والجمل واحد».
يشهد كامل على عتريس إسماعيل، خلال التحقيقات، واحد من الخيالة الذين تواجدوا بميدان مصطفى محمود، أنه رأى يوسف خطاب، المتهم السابع، يمتطى جملاً واقتادهم، والجابرى من ميدان مصطفى محمود، حتى ماسبيرو، ثم إلى المتحف المصرى، بميدان عبدالمنعم رياض، لكنه حين رأى نشوب اشتباكات بين المتظاهرين من الناحيتين خشى على نفسه وعاد إلى منزله ولم يدخل الميدان. يضيف عتريس أن الجابرى وخطاب اتصلا به أثناء التحقيقات، وطلبا منه تبرئتهما إذا ما تم سؤاله عن الموقعة، مقابل أن يوفرا محامين لمن قُبض عليهم من الجمّالة والخيّالة، لكنه رفض ذلك وطلب منهما أن يعلنا بأنفسهم براءة من قُبض عليهم من أولاد نزلة السمان.
المشهد السابع: «حروب العصور الوسطى»
تعرض كاميرات التليفزيون بثاً مباشراً من داخل ميدان التحرير لاقتحام الآلاف الذين عرفوا إعلامياً بفلول الحزب الوطنى من ناحية عبدالمنعم رياض، يلقون الحجارة على المتظاهرين بالميدان، ويتقدمهم عدد من الخيالة يركبون الجمال والخيول ويحملون على صدورهم صوراً للرئيس حسنى مبارك، حرب أشبه بـ«حروب العصور الوسطى»، تتقدم الخيالة فتقسم صفوف المتظاهرين إلى نصفين، وتسود حالة من الفوضى.
يحشد المتظاهرون بالميدان أنفسهم ناحية «المتحف المصرى»، يتصدى واحد من المتظاهرين للخيالة معتلياً على الجمل، فيسقط الجمل وصاحبه على الأرض ويبدأ المعتدون بالتراجع إلى ميدان عبدالمنعم رياض، الذي يشهد تماسك صفوف المتظاهرين وتداركهم للاعتداء في أقل من ساعة.
المشهد الثامن: حرب «الشوارع الخلفية»
التجمع الذي وضعت خطته في ميدان مصطفى محمود، تكرر في أماكن أخرى زحفت باتجاه ميدان التحرير من ناحية كوبرى قصر النيل وميدان طلعت حرب وشارع شمبليون، ليصبح الميدان محاصراً من جميع مداخله بمعتدين على المتظاهرين السلميين داخل الميدان، وتصبح الاشتباكات بجميع مداخل الميدان.
يصمد المتظاهرون، يتراجع مصاب واحد، ويتقدم أمامه عشرات المتظاهرين، يقسم المتظاهرون أنفسهم بأولويات الحاجة، كل حسب استطاعته، من يجيد حذف الحجارة وبناء الحواجز يتقدم إلى الجبهة، ومن لم يجد عليه إعداد الحجارة، أو ملء المياه، أو نقل المصابين إلى المستشفيات الميدانية التي نظمتها النساء، بينما ينظم كل ذلك وينسق فيما بينهم إذاعة داخلية تقول كل ما تحتاجه معركة الصمود من أجل الحشد وبث الحماسة.
المشهد التاسع: قناصة مجهولون
استمرت المعركة حتى منتصف الليل، معارك كر وفر بين الفريقين، احتجاز رهائن، تراشق بالحجارة والمولوتوف بين مواطنين يريدون إسقاط مبارك، وآخرين قيل لهم إن كل من يريد ذلك خائن، لم يكن لديهم إيمان يكفى لأن ينتصروا في المعركة، ولم يكن لديهم هدف أسمى من هدف المعتصمين بالميدان.
انسحب المعتدون، بقية قليلة منهم بقت على كوبرى أكتوبر، لكنها لم تصمد أيضاً، تراجعوا واكتفوا بمناوشات قليلة، وصاروا طعماً لصائدى أرواح المعتصمين من قناصة تطلق النيران من أعلى البنايات، فيما بقى من ذلك الليلة.
المشهد العاشر: «البراءة للجميع»
يعترف خطاب والجابرى خلال التحقيقات بكل ما سبق، يتهمان كلاً من صفوت الشريف وفتحى سرور بمسؤوليتهما عن الموقعة، بالاشتراك مع 15 عضواً بارزاً في الحزب الوطنى، وبعد 6 أشهر من التحقيقات، ينقل عبدالناصر الجابرى إلى المركز الطبى العالمى، ويتوفى هناك متأثراً بمرضه.
وفى أكتوبر عام 2012 أصدرت محكمة جنايات الجيزة، برئاسة المستشار مصطفى حسن عبدالله، حكمها ببراءة جميع المتهمين بـ«موقعة الجمل»، والمقيدة برقم 2506 لسنة 2011 جنايات قصر النيل.
وفى حيثيات حكمها برفض طعن النيابة في حكم براءة المتهمين في موقعة الجمل، قالت محكمة النقض إن النيابة العامة تأخرت في إيداع أسبابها إلى ما بعد الموعد المحدد لذلك، وأشارت الحيثيات إلى أن النيابة أرفقت بملف الطعن شهادتين، الأولى تفيد بأنها لم تتسلم الحكم حتى 9 نوفمبر2102، والثانية توضح استلامه في الحادى عشر من ديسمبر 2102، وأن الشهادتين لا تبرران عدم تقديمها أسباب الطعن في الموعد القانونى المقرر.