افترشت عباءة قديمة على قارعة الطريق، فوق تبة رملية لم يصبها بلل الأمطار، التى لم تتوقف طوال الليل، وجلست عليها حين لاح أول شعاع للشمس باعثاً دفئاً كانت فى حاجة إليه، بعد ليلة باردة قضتها فى غرفتها ذات السطح الخشبى، فى شارع السودان بمنطقة الدقى، بمحاذاة سور مترو الأنفاق.
سيدة على محمد، ذات السبعين خريفاً، تقضى يومها أسفل هيكل خرسانى لعقار قيد الإنشاء، أمام عشتها فى شارع السودان، بعد إغراق الأمطار غرفتها؛ حيث وضعت الأوعية البلاستيكية وأوانى الطهى أسفل مكان تسرب المياه، لمنع انتشارها فى الغرفة، واستلقت بجسدها حين لاحت الشمس فى الأفق، تستمد دفئاً حرمتها الأمطار منه طوال الليل، عقب سقوط قطرات منه فوق رأسها داخل عشتها.
«مش عارفة أنام طول الليل.. المطرة غرقت العشة، واضطريت أنام فى الشارع»، تقول «سيدة» التى تسكن فى تلك العشة منذ 30 عاماً منذ قدومها من أسيوط؛ فغرفتها التى لم تتجاوز المترين ونصف، المصنوعة من الخشب، لم تحمها من برودة الجو والأمطار، خلال الأيام الماضية.
تقول سيدة: «المحافظة أزالت العشش، 21 أغسطس الماضى، ووعدونا بشقق فى مساكن ستبنيها المحافظة فى نفس المنطقة، بمساحة 45 متراً، وفوجئنا بتوزيع المرحلة الأولى على مواطنين لا نعلم من هم، ليسوا من سكان العشش، وبنينا عششا جديدة، لحين وفاء المحافظة بتعهدها».
«حصيرة وبطانية وحلة الومنيوم»، هو كل ما تمكنت سيدة من إنقاذه من مخالب لودرات المحافظة أثناء الهدم، «الظابط قالى قدامك 5 دقائق تخلى العشة، ودول كانوا أهم حاجة عندى»، تقول «سيدة»، التى عاشت 70 عاماً دون بطاقة هوية، (ساقطة قيد من السجلات الرسمية)، التى لم تتمكن من إثبات وجودها فى الحياة سوى بوثيقة زواج تحتفظ بها.
وتضيف: «فى الصعيد لا نهتم بتوثيق المواليد، ومنذ ولادتى لم يستخرج أهلى شهادة ميلاد لى، وحالياً أدفع الثمن هذا، وفشلت فى الحصول على عمل ولذا أبيع خضروات وليمون على ناصية الطريق لإطعام أبنائى، وفى الليل افتراش أرض الشارع أسفل الخرسانة التى تم بناؤها لأحد العقارات وأضم ابنة ابنى، التى توفيت والدتها، وأنام أسفلها لضمان عدم وصول المطر إلى».
على حسين عبداللطيف، قضى 23 عاماً فى عشش السودان، يقول: «فصل الشتاء صعب على سكان العشش، لكن هذا الشتاء أكثر صعوبة»، وأتمنى لو كان العام كله صيفاً، المياه بتنزل علينا من سقف العشش لأنها مبنية من الخشب، ونضع جرادل بلاستيك وأوانى الطهى لتحاشى غرق الغرف، ومش عارفين ننام، وأقل ما يمكن أن توصف به عيشتنا، أنها: «عيشة كلاب».. لو واحد مربى كلب بيعمله غرفة يبات فيها وأكل محترم، يارتنا نتساوى بيهم. جردل وأطباق استانلس وبطانية، وأوان معدنية، هى مكونات شقة حازم عبدالراضى، أحد سكان العشش، ويقول: «العشة ورثتها عن والدى وجدى منذ ثمانين عاماً، واحتفظ بمستندات وإيصالات العوايد والضرائب عن الأرض، ويتابع: «الأوضة غرقت، وأنا قلقان على زوجتى، لأنها ستنجب خلال أسابيع، ويوضح: «الحى هدم العشش ووعدنا بالحصول على شقق بديلة، ووزع أرقاما بالتسلسل على كل عشة، وكان نصيبى رقم 74، وفوجئنا بتسليم شقق بنيت بجوارنا على أرض كنا نعيش عليها، وحصل عليها غرباء لم نرهم من قبل».
ويوضح: «اشتكينا لنائب المحافظ، فقال لنا: «كل واحد فيكم يرجع بلده.. المكان مش ناقصكم». عماد محمود السيد، خمسينى، قال إنه سيدافع عن العشة التى يملكها مهما حدث.
«الحياة فى الشتاء صعبة للغاية، لأننا لا نملك إمكانيات لعزل الأسقف، والمفروض أن ننفق على العزل 200 جنيه ولا نملكها».
ويضيف: «عددنا يقترب من 200 أسرة، والمحافظة سلمت 20 شقة لـ 20 أسرة، وننتظر وعدهم بتسكين 75 أسرة فى المرحلة الثانية.